الفصل الخامس: الظروف السائدة في الجزائر بين 1962 وجوان 1965. 1 - الجزائر في 1962: إن المشاكل التي كانت الجزائر تواجهها غداة الاستقلال جد معقدة. فيكفي أن نتذكر الخسائر المادية والبشرية الفادحة التي خلقتها 7 سنوات ونصف من حرب شرسة، بالإضافة إلى المشاكل العديدة التي تولدت عن الاستعمار وأصبح معظمها ذا طابع هيكلي(1): - استشهاد أكثر من مليون ونصف مليون شهيد مابين 1954 و1962. - إجبار حوالي 3 ملايين شخص على الانتقال من مساكنهم إلى مراكز تجمع حيث يخضعون لظروف حياة جد قاسية. - 500000 لاجئ في تونس والمغرب. - نزوح أكثر من مليون ونصف شخص من الأرياف نحو المدن. - 400000 معتقل سياسي. - 400000 مهاجر إلى فرنسا. هذه الظــــروف القاسيـــة التي لم يســـق لها مثــيل سببت للجزائر المستقلة مشاكل رهيبة. فوجدنا أنفسنا مع سكان متجمعين معتقلين، لاجئين ومهاجرين نحو المدن مقصون من الدوائر الاقتصادية ومحرومين من الأنشطة ومن ظروف الحياة العادية، يعيشون أو بالأحرى باقين على قيد الحياة في ظروف معيشية فظيعة وسوء تغذية. تسببت الخسائر المادية الكبيرة التي سببها الجيش الفرنسي في مشاكل معتبرة:
- إبادة 8000 بلدة وآلاف القرى. - حرق آلاف الهكتارات من الغابات. - إنخفاض عدد رؤوس الماشية والضأن بأربعة ملايين وذلك انتقالها من 7 ملايين إلى أقل من 3 ملايير في 1962، أما البقر فقد أبيد كله. - تلغيم مناطق واسعة على الحدود الشرقية والغربية على طول خط موريس وخط شال من طرف الجيش الفرنسي ولازالت الضحايا تسقط حتى عشرية 1990 رغم عملية نزع الألغام الضخمة التي قامت بها الجزائر. ويجب أن يضاف لكل هذا، الأفعال الشنيعة التي قامت بها منظمة الجيش السرية في 1962 والمتمثلة في تقتيل جزائريين أبرياء وأعمال تفجير البنايات بالبلاستيك وحرق مكتبة جامعة الجزائر. وبعد أن أنهى مجرمو المنظمة جرائمهم التي دامت أشهرا، التجأوا إلى أوربا. وفي عشية الاستقلال، غادر 900000 أوروبي الجزائر نهائيا. إلا أن بعضهم عاد فيما بعد كمتعاونين تقنيين، مندوبين من طرف الحكومة الفرنسية التي ستواصل سعيها ومناوراتها من أجل إبقاء الجزائر تحت التبعية الفرنسية ذات طابع استعماري جديد. كانت سنة 1962 جد مضطربة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي الذي يتميز بـ: تشكيل الجهاز التنفيذي المؤقت، وإنشاء القوة المحلية لدعم القوة الثالثة ذات النزعة الاستعمارية الجديدة، أزمة داخلية في جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني، انتخابات تشريعية، انشاء أول حكومة جزائرية للاستقلال، تعيينات في وظائف عليا في الادارة المركزية في السلك الاداري والجهاز الديبلوماسي. وفي هذا السياق، بدأ التسابق للاستيلاء على السلطة بين القادة الأساسيين تحت اسم:» الشرعية الثورية» فاتحا الطريق أمام الانتهازيين. تمخض عن التعيينات في الوظائف العليا في الادارة ترقية الاطارات الذين لم يكونوا معدين بصفة كافية. أسندت الادارة المركزية لإطارات ذوي قناعات سياسية واقتصادية ذات توجه فرنسي. وتمسك مناصرو «حزب فرنسا» مباشرة بـ «الوطنية الجزائرية»و»الثورة» اللذين يعتبران مصدرين للشرعية، قصد السماح لممثليهم بشغل وضائف مسؤولية عليا في الوزارات الاستراتيجية(1): وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، وزارة الاقتصاد والمالية وغيرها. ونجحوا في سد الطريق أمام الاطارات المعربة المتخرجة من الجامعات العربية: القاهرة، دمشق، بغداد أو الكويت، وذلك باسم العصرنة والقيم الغربية والانفتاح على الغرب. وهذا مايتطلب في نظرهم التمكن من اللغة الفرنسية التي تعتبر أداة ضرورية في الادارة الجزائرية الشابة واستعمالها. من جهة أخرى، تحاول الحكومة الجديدة، على غرار الاستعمار الفرنسي، التحكم في الإسلام من منظور علماني. وهكذا أنشأت وزارة الشؤون الدينية وأسندت إلى توفيق المدني من جمعية العلماء السابقة، قصد تحييد الإسلاميين. إن انشاء هذه الوزارة يستهدف بالخصوص التحكم في الأنشطة الاسلامية في المساجد. ومنذ هذا التاريخ أصبحت هي التي تعين الأئمة وتدفع لهم أجورهم. وأصبح النشاط السياسي والتربوي والجهوي الحر ممنوعا من الآن ففصاعدا. إن إقصاء الاطارات المعربة من وظائف المسؤولية وإرادة حصر الإسلام في دور رمزي في بلد شديد الحساسية تجاه الإسلام والحضارة العربية- الاسلامية، ساهم في رهن مستقبل الجزائر وتشكيل بذور انفجار لاحق، إذا أخذنا بعين الإعتبار تهميش ممثلي التيارات الفكرية رغم أنها تتمتع بالأغلبية لدى الجماهير الشعبية. فبدلا من أن تقوم السلطة الجزائرية بتوجية حماس الشعب الجزائري الخارق غداة الاستقلال، وتجنيد الطاقات الهائلة التي كانت متوفرة في مؤسسة ضخمة للبناء الوطني في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وأحداث قطيعة مع رجال وطرق النظام الاستعماري، وإشراك الشعب وجميع التيارات الفكرية بدون أي اقصاء، فإنها ستتورط في طريق مظلم متميز بواقعين هامتين: - المواجهة بين التيارات السياسية ومختلف المجموعات الجهوية أو الإسلامية. - وضع اليد على الهياكل الادارية التي تركتها فرنسا واسترجعتها في الجزائر المستقلة.
2 - تجابه التيارات السياسية: لقد تمخض عن تجابه التيارات السياسية بين 1962 و1965 صراعات سياسية وأحيانًا مسلحة بين مختلف الزعماء من جهة، وقيام حساسيات سياسية مختلفة في جبهة التحرير الوطني من جهة أخرى. صراعات بين مجموعات مختلفة: لقد رأينا سابقا في الفصل الأول، كيف استولى جيش الحدود حليف بن بلة وخيضر على السلطة في سنة 1962. كان على هذا التحالف الذي يمثل نظريا التوجه العربي الإسلامي في جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني أن يواجه عداوة قادة سابقين في الحكومة المؤقتة ذوي ثقافة غربية أوبعض مسؤولي جيش التحرير الوطني. في البداية، ظهر تحالف كريم بلقاسم ومحمد بوضياف، اللذين يمثلان توجه الحكومة المؤقتة، وقد اعتمد على الولاية الثالثة ضد بن بلة وبومدين. وانتهى بوضياف إلى معارضة سلطة بن بلة قبل أن ينسحب نهائيا إلى الخارج في 1964. ك ما أراد آيت أحمد أن ينظم في 1963 مقاومة مسلحة في بلاد القبائل ضد النظام، يسانده العقيد محند ولد حاج غير أن محاولتهما توقفت فجأة بعد انضمام العقيد محند ولد الحاج الذي فضل الدفاع عن الوحدة الوطنية عن طريق عرض خدماته لمقاومته الاعتداء المغربي في أكتوبر 1963 عند الحدود الغربية. تم إيقاف آيت أحمد بعد بضعة أشهر في 1964 وحكم عليه بالإعدام. ويفر من سجن الحراش ويستقر بالخارج حيث يدير حزب جبهة القوى الاشتراكية الذي كان قد أسّسه في 1963، يندلع نزاع سياسي خطير بين بن بلة وخيضر الذي كان في ذلك الحين أمينًا عاما لجبهة التحرير الوطني. ونظرا للدعم الذي كان يتمتع به بن بلة في هذه القضية، فقد أقصى خيضر في نهاية المطاف ليتوجه إلى المنفى ويحاول انطلاقا من منفاه أن ينظم معارضة سياسية ضد النظام الجزائري، وتم اغتياله بمدريد في 1967 بعد مرور سنتين من انقلاب بومدين. بدأ العقيد محمد شعباني، قائد الولاية IV الذي كان مقربا جدا من محمد خيضر، يتمرد على بومدين في 1964. وتم إيقافه في جوان 1964 وحكمت عليه محكمة عسكرية معينة من طرف بومدين بالاعدام وحتى لايستفيد من عفو رئاسي قام الجيش بتنفيذ حكم الاعدام فورا وهو إجراء اقترحه بومدين على بن بلة الذي كان رئيس الدولة(1). وعرفت سنة 1964تسابقا في جبهة التحرير الوطني يجري حول الحساسيات السياسية. في البداية يظهر الاقصاء السياسي لخيضر واعدام شعباني أن الصراع ضد النظام يتنقل في ظل التبعية العربية الاسلامية. ولاتزال أربعة تيارات غير مهيكلة قائمة، وتتجابه على الصعيد الايديولوجي قصد فرض أو تعزيز مواقفها السياسية في جبهة التحرير الوطني. التيار الإسلامي: لقد هاجم الشيخ الإبراهيمي، ممثل العلماء بعنف برنامج بن بلة واصفا إياه بالشيوعي فكلفته هذه المواقف ومواقف أصغر أولاده، أحمد الابراهيمي، على التوالي الإقامة الجبرية، والسجن. إن تأثير العلماء العدواني تجاه البعثية والناصرية، كبير جدا في الجزائر وبخاصة في الأوساط المعربة وبين المفكرين المعربين. ويندرج صراعهم في إطار مفهوم في غاية الوضوح يرتكز على الإسلام باعتباره مصدرا مرجعيا لتسوية المشاكل ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماع والثقافي. ويرتكز خطابهم أساسا على تعميم استعمال اللغة العربية واحترام الحريات الأساسية بما فيها حرية التعبير واحترام الحريات الأساسية بما فيها حرية التعبير، واحترام حق الملكية والانفتاح على العالم الخارجي. إلا أنهم يعارضون بلا موارية الاشتراكية المساوية للشيوعية والائكية والفرانكوفونية. ويبقى العلماء على الصعيد الاقتصادي قريبين من التيار الليبيرالي. التيار التحرري: يقترح فرحات عباس «ليبيرالية» هجينة فمن جهة يتعلق الأمر بإنشاء نظام جمهوري وديمقراطي ذي طابع غربي حيث الحكومة مسؤولة أمام البرلمان الذي يجسد سيادة الشعب وهذا الأخير مصدر السيادة وهو الذي يختار بحرية وديمقراطية ممثلية من بين مختلف التيارات المتنافسة، يجب على جبهة التحرير الوطني أن تكون تعددية، وأن لا تسخر لمجموعة أو عصبة ويجب القضاء على عملية اقصاء التيارات الإيديولوجية أو السياسية. ومن جهة أخرى، يعتبر فرحات عباس أن الإسلام والثقافة الوطنية هما الجديران بإحداث تغييرات اجتماعية ضرورية وتلبية طموحات الشعب. فتعاليم الاسلام في مجال التربية الدينية وحق الملكية والحق في الميراث والتضامن الاجتماعي وغيرها لا تتنافى مع مجتمع اشتراكي بل بالعكس فإذا لم تخالف مبادئ الاسلام وإذا لم تعاكس آداب وتقاليد شعبنا، فإننا نستطيع أن نورط البلد في ثورة..(1) إلا أن التيار الليبيرالي مالبث أن خنق بالإقصاء السياسي لفرحات عباس الذي وضع تحت الإقامة الجبرية في 1964. التيارات الشيوعية: نسجل خلال هذه الفترة وجود تيارين شيوعيين وهما: الحزب الشيوعي الجزائري ومناصري التسيير الذاتي. يعرف الحزب الشيوعي الجزائري الذي هو امتداد للحزب الشيوعي الفرنسي، بإخلاصه للإتحاد السوفياتي وبتقيده بنظرياته دون الأخذ بعين الاعتبار حقائق البلد، ونظرا لحسن هيكلته، فهو حاضر في أهم المنظمات الجماهرية التي يقودها منها: الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين وشبيبة جبهة التحرير الوطني. يحاول مناصرو التسيير الذاتي ذو والتكوين الماركسي والمختلفين عن الحزب الشيوعي الجزائري أن يوجهوا حركة التسيير الذاتي محاولين تنظيرها وتنظيمها. ويجدر بالتذكير بأن مراسيم مارس 1963 المتعلقة بتنظيم التسيير الذاتي والمكملة لمراسيم 1962 المتعلقة بـ»الأملاك الشاغرة»، قد أتخذت لمواجهة رد الفعل العفوي الذي قام به العمال الزراعيون الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن الملكية التي أصبحت»شاغرة» وتسييرها، بعد المغادرة الجماعية للمالكين الأوروبيين. إن الإجراءات الأولى المتخذة عن طريق تنظيمي في 1962 لم تصدر عن اختيار سياسي أو ايديولوجي على المستوى المركزي بل تمثل محاولة للتسوية القانونية لوقائع أنشأها عفويا العمال الزراعيون وعمال المؤسسات الصناعية أو التجارية التي تم التخلي عنها وهي في حالة اضطراب عام. لقد تم استرجاع هذه الحركة العفوية من طرف مجموعة من المفكرين الماركسيين حول « محمد حربي وحسين زهوان قصد تنظيمها على اسس علمية ومستمرة. في الحقيقة أصبح التسيير الذاتي فيما بعد رسميا عن طريق مراسيم مارس 1963. إلا أن صراحة والتزام مناصري التسيير الذاتي اصطدما بأجهزة الدولة الممثلة في شخص أحمد محساس وزير الفلاحة، ويشير بومعزة وزير الاقتصاد. وخلال سنة 1964، جرت مناقشات جماهرية حماسية (محاضرات واستجوابات ومقالات) بين مناصري التسيير الذاتي (حساسية سياسية حاضرة في جبهة التحرير الوطني) ومنافسيهم الهائجين الذين يتمتعون بسلطة حقيقية بمالهم من وصاية على المؤسسات والأراضي الزراعية المسيرة ذاتيا. لم يمر هذا النقاش مر الكرام أمام الجيش والتوجه الجمهوري لجيهة التحرير الوطني. فالآراء هي نفسها في الجيش. ويعتبر نظام التسيير الذاتي في وزارة الدفاع وفي سلم الترتيب حيث الضباط السابقون في الجيش الفرنسي يمثلون الأغلبية ويشغلون وظائف عليا، نظاما خطيرا يتم كفاحه بشراسة في مختلف أجهزة الدولة وعبر الاشاعات والمناورات التي ينظمها الأمن العسكري وفي المقابل، قام عشرات من الضباط الوطنيين، منهم عبد الرزاق بوحارة وكمال أوراتسي، بدون أن يتخذوا شكل حركة، بدعم تجربة التسيير الذاتي كل على حدة وبتعاطف كبير. ويوجد في جبهة التحرير الوطني العديد من المسؤولين والمفكرين والمناضلين الوطنيين الذين يدعمون حركة التسيير الذاتي. وفي الحقيقة، لم يطبق التسيير الذاتي أبدا في الجزائر رغم النصوص الواضحة التي خصصت له في عهد بن بلة أو بومدين(1). التيار الشعبي في جبهة التحرير الوطني: إن مصدر الوطنية الشعبية هو الكفاح ضد الاستعمار وتعزز خلال حرب التحرير. لم يصبح حزب جبهة التحرير بين سنتين 1962 و1964 أحادي الفكر. وعندما يصل بن بلة إلى السلطة ويحاول تعزيزها، يسيطر على الـ (ج.ت.و) مناصـــرو الوطنية الشعبــــية، رغم: «وجود العديد من المعابر التي تؤدي من الفكــــر الستاليني أو الماركســـي إلى هذا التيار والعكس» كما يوضحه بدقة محمد حربي(1). ومع الإقصاء السياسي لمحمد بوضياف وآيت أحمد (اللذين أنشأ كل منهما حزبه الخاص، وهما على التوالي PRS وFFS) واقصاء كريم بلقاسم وفرحات عباس وخيضر وشعباني فإن الحياة الوطنية وتشييد البلاد سيتميزان باختيارين أسياسين ظهرا في 1962 وهما: الحزب الوحيد والخيار الاشتراكي. اختيار الحزب الوحيد: في بلد خرج منهك القوى من الحرب الوطنية لمواجهة القوى النابذة التي ظهرت في 1962، وتجنيد ثروات وطاقات الشعب الجزائري حول الحساسيات التي يتكون منها قصد اتمام الاستقلال السياسي في مهام تشييد البلاد(2). يقع الخيار الاشتراكي على الامتداد القائم بيان 1 نوفمبر 1954 وفي ميثاق الصومام الذي يطالب بتأسيس « دولة ديمقراطية واشتراكية» وفي برنامج طرابلس الذي يحدد محيط سياسة اقتصادية ذات طابع اشتراكي يبدو فيها دور الدولة حازما في تغيير الوسط الريفي عن طريق الثورة الزراعية وفي انشاء قاعدة صناعية من شأنها أن تضمن تعميم التنمية في البلاد. يبدو أن هذا الاختيار يتوافق مع طموحات الشعب الجزائري في التنمية والعدالة الاجتماعية قصد الاقصاء النهائي للاستغلال والظلم الذي عانى منه خلال ليالي استعمارية طويلة وقاسية. ويبدو هذا الاختيار وكأنه مملي من الارادة في عدم السماح بمصادرة تضحيات الشعب الجزائري وعدم الاستئثار بالثروات الوطنية لصالح أقلية تقودها رغباتها، التي من شأنها أن تصبح أداة طيعة لاستعمار جديد. يخول هذا الرأي للدولة دورا مركزيا في جميع المجالات إلا أنه يلاحظ أن عقيدة الدولة تفتح الطريق أمام مختلف الانحرافات، وفعلا يتمخض عن اختيار الحزب الوحيد رفض المنافسة في الـ FLN وبانتقاله إلى أداة تنفيذ وقحة لسياسة المجموعات التي بيدها السلطة(1). يؤدي اختيار الإشتراكية إلى تدويل الاقتصاد، وإلى التمركز وتركيز سلطة القرار في دوائر ضيقة جدا ومغلقة. إن قيادة الدولة لاتولي أهمية كبيرة لنشاط وفعالية المؤسسات العمومية وتنشئ ظروفا لاتلائم كثيرا المبادرة والاطارات والعمال والمسؤولية والمشاركة، ومثل هذه البيئة تشجع اللاشفافية في التسيير والتبذير والانتهازية والرشوة والرداءة التي ستصبح فيما بعد للآسف الطروحات الأساسية التي ستميز الإدارة والقطاع العام الاقتصادي للجزائر إلى يومنا هذا.
3- وضع اليد على الهياكل الادارية: إن التصادم بين التيارات السياسية والصراع القائم بين مختلف المجموعات وبخاصة بعد اعلان الاستقلال كان سببا في تنشيط ارادة الاطارات المخلصة النزيهة في المقاومة والمشاركة الفعالة. ومنذ السنوات الأولى للاستقلال، ساهم كل من البعد المتنامي بين الخطاب السياسي الرسمي المتضمن للمساواة والتضامن والعدل الاجتماعي... والحقائق الاقتصادية والاجتماعية المأسوية المعيشة في إفقاد مصداقية الدولة وبوضع حاجز بين الحاكمين والمحكومين، وفي الوقت الذي يعاني فيه أغلبية الشعب من البطالة والفقر ومن ظروف المعيشة السيئة فإن أقلية جديدة ذات تصرفات مخزية تولت الإدارة وأثرت بسرعة. وتستغل الملكية التي أصبحت (شاغرة) في الميدان العقاري (سكنات، فيلات، محلات تجارية) أو في الميدان الانتاجي (مؤسسات انتاج سلع وخدمات) أما مباشرة أو عن طريق صفقات مربية واحتيالية. وكان لازال ممكنا بين 1963 و1964 توظيف القوى الحية للبلاد في صراع جاسم قصد ضمان تشييد البلاد للخروج تدريجيا من التخلف والتبعية الخارجية. ساهمت هذه العوامل السياسية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية في تحويل اتجاه قوى البلاد من كفاح حاسم كان ينبغي الشروع فيه بسرعة قصد ضمان تشييد البلاد في إطار الأخوة والتضامن وقصد تأسيس نظام ديمقراطي وتعددي بإحداث قطيعة مع رجال وطرق وأساليب التسيير والحكم في الفترة الاستعمارية. وهكذا، بدلا من جمع الاطارات والعمال والمواطنين حول مهام سامية للصالح العام قصد ترقية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن النظام سار في اتجاه معاكس ترك الطريق مفتوحا أمام الانتهازيين ومناصري الوجود الفرنسي في الجزائر(حزب فرنسا) ليشغلوا وظائف مسؤولية. إن المجموعة التي بيدها السلطة سهلت ترقية الانتهازيين ومناصري فرنسا وقامت بكل شىء حتى تعزز مواقعها عن طريق تعزيز التحكم في الأجهزة ورفع عدد العمال بعانصر تعتبرهم «مطيعين «وأكفاء»، وعلى أي حال ليسوا خطيرين سياسيا لسهولة القضاء عليهم كما أن الحماية ( أو «المظلمة») كما يسميها البيروقراطيون) التي تمنحها لهم السلطة تضمن لهم الاستقرار والامتيازات وتعزز سلطتهم وتخولهم الشرعية. وإقصاء الاطارات الوطنية والجادة ضحايا الصراعات التي كانت تجري بين الشرطة الموازية التابعة لبن بلة أو بومدين(1). - أسبقية السياسي على العسكري: كان هناك تياران متصارعان، أحدهما يدعم بن بلة وكان يتمنى تخويل السلطة العليا إلى (ج.ت.و) بالتركيز على ضرورة أسبقية الحزب على الجيش والادارة، أما الثاني فتجمع حول بومدين من أجل إحباط التيار الأول وذلك بالاعتماد على الجيش والادارة. فتضاعفت الدسائس ضد بن بلة والاشاعات، وتميزت الخمسة أشهر الأولى من عام 1965 بهيجان غير عادي معلنا عن ضربة قوية وشيكة لصالح أحد المجموعتين. إلا أن دور الجيش الذي كان يسيطر عليه قدماء الجيش الفرنسي سيكون حاسما. - فشل تطهير الادارة والجيش: لقد كان تطهير الإدارة من المتعاونين السابقين مع فرنسا الاستعمارية مطلبا عبرت عنه القاعدة النضالية، التي أعادت اعتبارها إدارة الـ(ج.ت.و) (وزراء (فقرة ناقصة) غضب الجماهير من الادارة) لم يلاحظ الناس أي تغيير معتبر في ظروف معيشتهم وفي علاقاتهم مع الادارة بالمقارنة مع الفترة الاستعمارية، وهذا ماضاعف غضب الجماهير وسيطرت فكرة جد منتشرة بين الشعب مفادها أن الإدارة مرتشاة ويسيطر عليها موظفون قدماء كانوا يحتلون مناصب خلال الفترة الاستعمارية... (فقرة ناقصة) هو الذي حرر له تقريرا حول الاطارات مقترحا عليه توقيفهم لم يصعب علي اقناع بن بلة أن التقرير مزور، وعند عودتي إلى عنابة أستدعيت النقيب عبد السلام وسألته عن دوافع تقريره المزور فأجابني ببرودة، باعتباره مناضلا متمركزا سابقا في تونس ( قبل الاستقلال)، يعمل مع جيش الحدود ويدعمون بومدين، كان واجبه مطاردة المسؤولين السابقين للولاية II الذين يدعمون الحكومة المؤقتة ضد قيادة الأركان العامة في 1962 ومما زاد الطين بلة هو أنه اندهش كيف أدافع على هؤلاء الأبرياء «أعداء» الأمس، فشرحت له أن تصرفه غير مقبول وطلبت منه مغادرة المكان فورا الاستعمارية، وبقيت الادارة الجزائرية ذات الأصل الاستعماري اضطهادية، لا أداة في خدمة المواطن، وهي كذلك حتى يومنا هذا، لذا كان تطهير الادراة من عناصرها المحتالين في البداية مطلبا شعبيا قبل أن يصبح مطلبا رسميا لجبهة التحرير الوطني. في نفس الوقت، كان اطارات (ج.ت.و) الذين كانوا موظفين في 1964 يطالبون بتطهير الجيش من الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، من أجل أن يحتفظ بميزته «الوطنية والشعبية» (الجيش الوطني الشعبي) وحتى يندمج في السلطة كجهاز للحزب. وتمت صياغة هذا المطلب بصراحة وبالحاح خلال مؤتمر (ج.ت.و) في أفريل 1964 وإجابة بومدين الشهيرة للمؤتمرين معروفة، وقد دام خطابه أكثر من أربع ساعات لينتهي على الساعة الخامسة صباحا. وفيما يخص التطهير، سعى بومدين إلى تصعيب المهمة حتى يحبط هذه المطلب وكانت حجته تدور حول نقطتين: إذا أردتم التطهير، قال في هذا السياق، يجب أن يمتد إلى كل قطاعات النشاط، وفي هذه الحالة لنأخذ الفأس وننطلق لكن من يطهر من؟ وبمن سنبدأ؟ هل من الواقعي أن نهاجم عددا كبيرا من الجزائريين فقط لأنهم خدموا في الادارة الفرنسية رغم أننا اليوم مستقلون وهم مفيدون لبلدهم؟ إن تطهير الجيش لايخدم الجزآئر حيث أننا إذا عزلنا قدماء ضباط الجيش الفرنسي، فإن الجيش الوطني الشعبي سيجد نفسه بدون تأطير كفؤ وسكوت مجبرين على اللجوء إلى المساعدة الفنية وتوظيف ضباط أجانب. أي أنكم تطلبون منا أن نعوض ضباطا جزائريين بضباط أجانب ستكون تكلفتهم المادية باهضة جدا على الجزائر ولن يخدموا بلدنا بأمانة الجزائريين وبالتالي فالاحتفاظ بالضبـــاط القدمــاء للجيـــش الفرنسي في الجيــش الوطني الشعبــي هو ضرورة ومطلب وطني. وهكذا وضعت معارضة بومدين حدا نهائيا لمطلب شعبي جدا. وكانت استراتيجية بومدين في السلطة تعتمد على الجيش لتعزيز موقعه ولبلوغ الهيئة العليا للدولة. وكان يعتبر الضباط القدماء وضباط الصف في الجيش الفرنسي أداة ثمينة وضمانا للتحكم في الجيش وبلوغ أهدافه السياسية إذن فالجيش غير المطهر هو الذي سيعرقل نجاح مبدأ أسبقية السياسي على العسكري الذي طالب به (ج.ت.و) والذي يتعارض مع تطهير الادارة ونجح حزب فرنسا في 1964 في دور مهم في عمليته للاستيلاء على السلطة. إن انقلاب عبد القادر شابو وسليمان هو فمان صانعه أعلن عن نهاية الثورة ودعم النزعة ذات التوجه الفرنسي في مسيرتها الزاحفة نحو التحكم في مؤســـسات الدولة وبخاصـــة منها القطاعات الاستراتيجية هكذا سيعتمد بومدين منذ 1962 على الجيش ومصالح الأمن وعلىى البيروقراطية المدنية (وزارة الداخلية ووزارات الاقتصاد) قصد ارساء سلطته ثم نظامه بالخصوص بعد انقلاب جوان 1965.
القسم الثالث
زحف حصان طروادة
الفصل السادس:
الاستيلاء على القطاعات الاستراتيجية.
قبل التطرق إلى المظاهر العملية للاستيلاء على السلطة من طرف البيروقراطيين الفرانكونيين بعد الاستقلال الشكلي للجزائر. يجدر بنا ضبط مفهوم «حزب فرنسا» وكذا وزنه في الظرف الراهن. إن المثقفين الفرانكوفونيين لا ينتمون على وجه الإطلاق إلى «حزب فرنسا»، إذ أن هناك العديد من المثقفين الفرانكوفونيين مثل مالك حداد، محمد حربي، مالك بن نبي وآخرين، ينتمون إلى تيارات فكرية مختلفة، من الشيوعية إلى الإسلامية مرورا بالوطنية. ابتعد كل بطريقته عن الدولة وعن تيكنوقراطييها. أما بالنسبة لـ «حزب فرنسا»، فهو يضم قدامى ضباط الجيش الفرنسي وموظفين سامين ومثقفين من مختلف المهن الحرة( أطباء، محامين، معلمين، مقاولين،إلخ)، وجمع بينهم قاسم مشترك هو الارتباط بفرنسا، وإلى نموذج الحياة والتفكير الفرنسيين اللذين يعتبرونهما النموذج المفضل! إن هذه الظاهرة في حقيقتها هي نتاج السياسة الفرنسية، التي شجعت منذ غزو الجزائر في القرن 19، على تكوين نخب جزائرية، لتقوم بدور الوسيط بين السلطة الإستعمارية والشعب الجزائري، بهدف تأطير الشعب، وإطلاعه على مواقف السلطة. وقد قام الجيش والمدرسة بربط هذه النخبة بعمق بالدولة المستعمرة التي منحتهم مكانة مفضلة فوق شعبهم»(1). إن حزب فرنسا ليس حزبا مهيكلا بأتم معنى الكلمة، لكنه يشكل سديما يناضل من أجل ارتباط الجزائر بالنموذج الثقافي الفرنسي وبالفرانكوفونية، التي أصبحت إيديولوجية في خدمة الاستعمار الجديد. إن المدة الطويلة للتواجد الفرنسي الاستعماري بالجزائر، وهي مدة تقارب القرن وربع القرن، إلى جانب الإستراتيجية التي وضعها المستعمر بين 1958 و1961، لوضع الجزائر ضمن قانون الإستعمار الجديد وابقائها تحت هيمنته. قد ساهما في تقوية» حزب فرنسا» بشكل معتبر وتلغيم استقلال الجزائر بشكل خطير. لذلك، لم يجد حزب فرنسا أية صعوبة، بعد الإستقلال للتموقع في دواليب الدولة، سواء في الإدارة المركزية (الوزارت) أو الجهوية (ولايات وبلديات) أو في مجمع القطاعات الاقتصادية (فلاحة، صناعة، بنوك، جمارك، خدمات). وقد سهل تحكم الدولة في الاقتصاد، وحركة التأميم التي بدأت منذ عام 1966، توسع مجال نفوذ «حزب فرنسا»، وقد شكل هذا الأمر فرصة للبيروقراطيين المكونين حسب النمط الإستعماري، لأخذ زمام الأمور في مشاريع الدولة في كل قطاعات النشاط.
1 - ظهور التيكنوقراطية في الجزائر المستقلة في هرم الدولة، لا يهتم المسؤولون السياسيون إلا بالحفاظ على مناصبهم في السلطة، ويرفضون فكرة التناوب على الحكم في إطار ديمقراطي، ويستمدون شرعيتهم من المشاركة أو مخالطة الثورة، ولا يملكون أي توجه إيديولوجي واضح، ولا مشروع مجتمع، ولا برنامج سياسي دقيق. إنهم يكتفون بفرض- باسم الوطنية- مشروع التصنيع (منذ منتصف حقبة الستينيات)، معتمدين في ذلك على التيكنوقراطية التي هي» فرانكوفيلية». وحتى يخفون عجزهم من حيث الشرعية، وقصد تعزيز مكانتهم الاجتماعية، وبهدف الاستفادة أو لحماية امتيازاتهم المختلفة، شكل البيروقراطيون والتيكنوقراطيون بدون منازع رجال السلطة النشيطين. إن الطبيعة التسييرية والدولتية والسلطوية والوصاية للنظام الجزائري منذ الاستقلال، فتح المجال للرداءة والانتهازية، وولد جو اللامبالاة وقتل روح التعبئة لدى الشعب ولدى عدد لابأس به من الكوادر النزيهة و الكفأة على مر السنين. وقد أدى هذا الأمر إلى حدوث شرخ مزدوج: قطيعة بين البيروقراطيين والتكنوقراطيين والمجتمع الجزائري من جهة، وبروز هوة عميقة بين الحاكم والمحكوم من جهة أخرى. إن الطــــــلاق بين البيروقراطيين والشعــــب الجزائري، هو الذي يترجم القطيعة بين الثقـــافة الشعبية المستمدة من الحضارة العربية الإسلامية، وثقافة البيروقـــراطيين المستـمـدة من المدرسة الفرنسية، أو من الإدارة (القمعية) أو الجيش الاستعماري(1). ويكمن دور البيروقراطيين، تبعا لمصالحهم، في خدمة المسؤولين الكبار، بتبرير النظام القائم والدفاع عن شرعيته. كما تساهم في مجتمع محروم من مجالات الحرية، الممارسات الإدارية والسياسية غير الديمقراطية في زيادة التهميش واتساع الحڤرة، أي احتقار المواطنين من قبل البيروقراطيين وممثلي الدولة. لذلك وصلنا إلى وضعية خطيرة، حيث لم تعد الإدارة في خدمة المواطن، وهو الأمر الذي كان يجب أن يكون، بل أصبح المواطن تحت رحمة البيروقراطية، الأمر الذي فتح المجال للرشوة وتجاوز القانون (الذي يتحدى القانون والعدالة)، واللاعقاب، وإلى كل أشكال الظلم. وقد أدى مجموع هذه العوامل إلى انهيار احترام سلطة الدولة منذ منتصف 1970، كما نتبين ذلك فيما بعد. والآن، سوف نقوم بفحص دقيق للكيفية التي ساهم بها بومدين في استقرار البيروقراطية لتعزيز سلطته، ثم كيف نجح «حزب فرنسا» في التموقع في مجموع القطاعات الاستراتيجية، والوصول بالجزائر إلى الوضعية المأساوية التي نعيشها اليوم في نهاية القرن العشرين.
2 - تعزيز «حزب فرنسا» في القطاعات الرئيسية: سمح الانقلاب العسكري في عام 1965 لبومدين بتحقيق استقرار ثم تعزيز البيروقراطية، في إطار سياسة مراقبة الدولة كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية، بهدف تقوية حكمه الفردي. إن قمع الحركة النقابية واتحاد الطلبة وكذا «تنقية» حزب جبهة التحرير الوطني منذ جوان 1965، وتبعه تجديد الحركة الوطنية في وسط الجيش الوطني الشعبي، خاصة بعد «الإنقلاب» الفاشل الذي قاده العقيد الطاهر الزبيري بتاريخ 14 ديسمبر 1967، تشكل كلها عناصر حاسمة لعملية بدأت بعد الاستقلال، وتهدف إلى وضع حد للمشروع الثوري والشعبي الذي قادته حرب التحرير الوطني. ومنذ ذاك كان توجه النظام يهدف إلى تقوية البيروقراطية الضرورية لبقائه، مع العناية الفائقة بتقديم خطاب اشتراكي المظهر لتحسين شعبيته النظام. وعلى المستوى الداخلي، كان النظام يستخدم اشتراكية الواجهة، للتدليل على أنه يبني مجتمعا تسوده المساواة، قصد تخدير الشعب الجزائري الحساس جدا تجاه العدالة الاجتماعية، والحرية والعدالة. كما أن مداخيل النفط تستخدم كوقود لبناء المشروع الاشتراكي ولإخفاء المشاكل الحقيقية للبلد. وفي الواقع، فإن النظام يكتفي بتقديم مشاريع مصممة بعيدة جدا عن المواطنين وبوصاية تامة. ولكي يضع النظام هذه المشاريع موضع التنفيذ، فإنه يستخدم الذرائع ووسائل ضخمة جدا حتى حسب العبارة المستخدمة «يعبئ» العمال والطلبة والفلاحين، وفي نفس الوقت لا يتردد النظام في وضع حد أو قمع كل حركة مطلبية أو كل فعل سياسي يسعى بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة إلى اقتسام السلطة. وعلى المستوى الخارجي، فإن النظام العالم ثالثي الرسمي يقوم على التنديد بالإمبريالية. وعلى مساعدة ودعم حركات التحرر الوطني في العالم. وبعد صدمة النفط في عام 1973/1974، وباتباعها سياسة الرفاهية أصبحت الجزائر زعيمة الحوار شمال جنوب وإقامة نظام عالمي جديد. إن مكانة الجزائر على المستوى الدولي (التي تعود إلى الثورة وإلى حرب التحرير الوطني) استغلت في الاستهلاك المحلي في الوقت الذي لم تكن فيه الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية مزدهرة. وحتى نبين التنافض الصارخ بين بومدين الذي تكوّن بالعربية في جامعة الأزهر، مؤيد للحضارة العربية الإسلامية ومتشبع بقيم الثورة الجزائرية من جهة، و»حزب فرنسا» الذي نجح في تعزيز مواقعه في هياكل الدولة في عهده من جهة أخرى، يتعين علينا إلقاء إضاءة سريعة حول شخصية بومدين(1). كان بومدين رجل سر، هادئ، حذر، يقظ، صارم وتسلطي، إنه يملك بدون منازع خصائص القائد. إنه شديد الذكاء ووهبه الله ذاكرة قوية، وله فكرة قوية عن نفسه، لايؤمن لابالديمقراطية ولا باختيار الشعب. لا يقبل النقد إطلاقا حتى لو كان بناء إنه يعتقد أنه في مكانة تؤهله لتقرير مصير الشعب إنه أبوي جعل نفسه وصيا على الشعب. بومدين مؤيد للنظام والانظباط ويحرص على أن يتم إخباره بكل شىء وبدقة. في بداية عهده كان يشترط بأن تقدم له المعلومات والأخبار بالتفصيل وبالحجج والبراهين. وكان طموحه يتمثل في تطوير الجزائر اقتصاديا وجعلها قوة جهوية في العالم العربي وإفريقي. بومدين كان يريد دولة قوية وشديدة المركزية. كان يهمل العنصر البشري ويعتقد أنه يمكن الحصول على كل شىء بواسطة المال: الإشراف التقني الأجنبي، نقل التكنولوجيا، التصنيع، التطور التقني والتنمية الاقتصادية. لا يكن أي احترام للفرد ويحب إخضاع المسؤولين المحيطين به ويبعد من السلطة بدون تــــردد كل مســـــؤول أو قائد يتمتع بشخصيـــة قوية حتى لو كان كفئا ونزيها ومفيدا. و بكلمة واحدة، لايريد بومدين أي منافس حقيقي لا من قريب ولامن بعيد. وبهدف تحقيق طموحاته. كان بومدين يعتمد على فريق قليل العدد من رجال الثقة، وهم الذين يشكلون نواة النظام القوية، ويعتمد على التكنوقراطين وعلى الاشراف التقني الأجنبي، لتحقيق ثورته الصناعية. في الأصل، يعد تكوين بومدين عربيا إسلاميا، ثم تأثّر بتيارين فكريين متناقضين هما: الرأسمالية والشيوعية. بومدين لم يكـــن أبدا ماركسيا ولا شيوعيا، لكنه قرأ العديد من مؤلفات لينين وماوتسي تونغ خلال حرب التحرير الوطني. ويشترك بومدين مع التيار الشيوعي في تقديس الشخصية والدولتية، وبأسبقية الاقتصاد على السياسة. والشمولية، وعدم احترام الحريات الأساسية خاصة حرية التعبير والحريات الفردية ومقابل ذلك لايعترف بالأممية. وفيما يخص الرأسمالية، كان بومدين منبهرا بالتطور العلمي والتقني، الفعالية والإنتاجية والرفاهية التي تحققت في الدول الصناعية، والتي كان يأمل في أن تستفيد منها الجزائر بصفة سريعة. لكنه يرفض الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التي قيل أنها تولدت عن هذا النظام. ومن خلال هذه الأبعاد ثقافيا (الانتماء إلى الحضارة العربية الاسلامية)، سياسيا (التأثير الشيوعي)، اقتصاديا وتقنيا (تأثير الرأسمالية). استوحى بومدين» الاشتراكية العلمية» للجزائر. والتي حلم بأن يجعلها قوة ونموذجا في العالم الثالث. وبكامل ثقته في نفسه، وبقيادته الفردية. ومراقبته لكل شيء كان بومدين يعتقد أنه يحقق مشروع مجتمع بالاعتماد على التكنوقراطيين. وهذا هو الإطار الذي سمح فيه بومدين لنخبة تكونت في المدرسة الاستعمارية للتموقع الأبدي في مراكز القيادة في كل قطاعات النشاط. وسنرى فيما بعد كيف لغّم هذا المزيج المتفجر الجزائر المستقلة ومؤسساتها وقاد البلاد إلى الهاوية. وقد حدث هذا لأن نموذج التنمية المختار كان غير ملائم وأن الدولة التي توغلت فيها الرداءة والانتهازية والرشوة، لم تكن قادرة على تقديم حلول مناسبة لمشاكل التخلف المتعددة. وعلى الرغم من كونه أعرج من عدة نواحي، فإن مشروع العصرنة الذي صممه التكنوقراطيون (الذين توجد قطيعة بينهم وبين الشعب)، وتبناه بومدين ينحصر في الجانب المادي ويهمل البعد الروحي والإنساني. وكذلك تم خلق نوع من الانسجام بين بومدين وبين البيروقراطية التي تعززت في عهده في كل قطاعات النشاط. إن المقاربة العلمانية والعصرانية لبومدين دعمت البيروقراطية الفرانكوفولية. وفي الحقيقة فإن بومدين يرفض اعتماد القيم الإسلامية في مشروعه، ويحتاط للحركة الإسلامية التي نجح في محاصرتها وتحييدها. ولما كان واعيا بتمسك الشعب الجزائري بالإسلام. حاول بومدين استدراك فصل الدين عن السياسة بالضوء الأخضر الذي أعطاه لوزارة التربية لتسجيل الدين ضمن البرامج الدراسية، وتسجيل مبدأ «الإسلام دين الدولة» في دستور 1976. لكنه من حين لآخر، كانت وزارة الشؤون الدينية مكلفة بمراقبة النشاطات الإسلامية في المساجد وقد تكثفت هذه الرقابة في سنوات 1970 إلى درجة أصبحت فيها خطب الجمعة تعدها وتوزعها وزارة الشؤون الدينية. وبذلك أصبحت المساجد منبرا للخطاب الرسمي والدعم اللامشروط للنظام. إن أهم شيء بالنسبة لبومدين هو إبعاد الدين عن السياسة، وإعطاء الإسلام دورا رمزيا فقط، حتى يضمن استمرارية النظام. أما فيما يتعلق بعصرنة البلاد. فقد كان بومدين يعتمد على البيروقراطية لتحقيق مشروعه. لقد سمح التصنيع وتعزيز هيمنة الدولة بفضل التأمينات في المجال الصناعي والمالي والمناجم وكذا انشاء شركات وطنية عمومية لبومدين بتقوية سلطته الفردية والبيروقراطية. لقد وصف محمد حربي هذه الظاهرة بصفة جيدة، حيث سجل أن «الطابع العسكري للمركزية تضاعف بهجرة إطارات سامية في الجيش في الوزارات والشركات الوطنية منذ 1967. كما أن انتشار الطبقات البيروقراطية والاقتصادية العسكرية والبوليسية قامت حول خلفية تهيمن عليها الحركية الاجتماعية وترييف المرن، وهما ظاهرتان مناسبتان للتلاعب بطموحات الشعب والسلطة غير المراقبة للدولة المالكة»(1). وهكذا اعتمد بومدين على البيروقراطية لتحقيق مشروعه الضخم لعصرنة الجزائر. لكنه اعتمد على الجيش والمخابرات التي يسيطر عليها بدون منازع لتقوية سلطته السياسية.
3 - الجيش ومصالح الأمن. منذ مرحلة ماقبل الاستقلال. اعتمد بومدين على الجيش في الوصول إلى السلطة، لكن بعد الانقلاب في جوان 1965، احتاط بومدين بعدم إقحام الجيش ومصالح الأمن بصفة مباشرة في ممارسة السلطة. وبعبارة أخرى لقد وظف الجيش ومصالح الأمن لتقوية حكمه الفردي بدون إشراكهم في عملية اتخاذ القرار في المجالا السياسية والاقتصادية. وإذا كان الجيش ومصالح الأمن تحترم بومدين وتخاف منه، فإنه ليس هناك أي مجال للشك أنه بفضله وضع «حزب فرنسا» يده على هاتين المؤسستين منذ استقلال الجزائر. وهذا الأمر سهّل تطور نفوذها في عدة قطاعات قصد ضمان المراقبة الفعلية للأجهزة. 3-1- الجيـش. كما أوضحنا في الفصل الثاني، فإن توغل «الفارين» من الجيش الفرنسي في عام 1957-1959 و في عام 1961 في جيش التحرير الوطني بعد الاستقلال. وقد رأينا كيف أن هؤلاء «الفارين» بدأوا في خدمة كريم بلقاسم الذي كان وزير القوات المسلحة. لقد وضعوا أنفسهم في خدمته حتى ينالوا رضاه ويتحصلوا على الشرعية الثورية التي كانوا بحاجة ماسة إليها للوصول إلى مراكز القيادة. وعندما ضعف كريم بلقاسم بسبب الأزمة التي هزت الحكومة المؤقتة (ج.م.ج.ج)(1) و(م.و.ث.ج)(2)، قدم هؤلاء «الفارون» أنفسهم خدماتهم للعقيد بومدين، الخصم العنيد لكريم بلقاسم مباشرة بعد تعيينه قائد أركان جيش التحرير الوطني. رأينا أيضا كيف أحاط بومدين نفسه بهؤلاء «الفارين» في (غارديماو) حيث أقام هيئة الأركان. وقد ظفر أولئك «الفارون» بثقة بومدين بإحناء الرأس والطأطأة له. هؤلاء الناس يلائمون بومدين بالتمام لأنه لا يريد أن يجد أمامه شخصيات قوية أو ضباطًا يتمتعون بالسلطة. إنه يفضل إحاطة نفسه بأناس حقيرين، هذه هي طبيعته. وقد استخدمهم في الاستيلاء على السلطة. وهم أيضا استخدموا بومدين لتحقيق أغراضهم باللعب على عامل الزمن. في عام 1962، كان « الفارون» من الجيش الفرنسي ضمن أقرب المعاونين لبومدين. وعندما تم تعيينه نائب رئيس المجلس ووزير الدفاع في سبتمبر 1962، عين عبد القادر شابو (ملازم أول في الجيش الفرنسي في السنوات الأربعة السابقة) في منصب أمين عام وزارة الدفاع الوطني. وأسند المنصب الحساس: مدير الموظفين إلى لحبيب خليل (ملازم سابق في الجيش الفرنسي ثلاث سنوات من قبل) كما تم ، الاحتفاظ بكامل المديريات المركزية في وزارة الدفاع إلى»الفارين» من الجيش الفرنسي. ومنذ 1962، أي قبل أن تجف دماء الشهداء، وقبل أن تلتئم جراح واحدة من أكبر حروب القرن، وجد جيش التحرير الوطني نفسه تحت سيطرة حوالي 15 ضابطا من أدنى رتب الجيش الفرنسي (ملازم أول، ملازم) الذين كانوا تحت الراية قبل ثلاث أو أربع سنوات فقط، يالها من ترقية!! وكان أنشط العناصر في هذا الفريق من «الفارين» العربي بلخير، خالد نزار، مصطفى شلوفي، عباس غزيل، سليم سعدي، محمد تواتي ومحمد العماري. ويقودهم عبد القادر شابو وسليمان هوفمان(1). الأول حذر، متأدب، ومتكتم أما الثاني فهو وقح، وله طبع ذو حيوية مفرطة وطموح فياض. إن مخطط هذا الفريق تم وضعه منذ 1962 ويتضمن على الفور أربعة محاور: التسريـــح الســريع، الكثيــف وبدون سابق انذار للضباط وضباط صف المجاهدين الوطنيين. وقصد تفعيل هذا التسريح، للتخلص من المجاهدين، تم اللجوء إلى الأشكال مثل تقديم مساعدة مالية معتبرة، وإلحاقهم بالنشاطات التجارية (منح كل المسرحين مقهى أو مطعم أو منشآت تجارية والتي صرح بها «أملاك شاغرة» بعد ذهاب الأوروبيين) أو في جهاز جبهة التحرير الوطني أو في الإدارة (في مراكز ثانوية) وفي كل مجالات كانت أقدمية المجاهد تؤخذ بعين الاعتبار، وكذلك بعض الامتيازات المادية، أو حتى تحفيزات لتشجيع الذهاب السريع للمجاهدين من الجيش الجزائري الفتي. إدخال آلي في الجيش الوطني الشعبي لضباط صف وضباط مازالوا في خدمة الجيش الفرنسي بعد الاستقلال مع احتفاظهم بالأقدمية والخبرة. وأن بعض الضباط لم يلتحقوا بالجيش إلا في عام 1968، واسندت لهم مناصب قيادية. - التكوين العسكري: إن برنامج التكوين في مختلف المدارس العسكرية والمدرسة الوطنية للمهندسين والتقنيين للجيش (ENITA) الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، تم ضبطها ومتابعتها بعد الإستقلال، من طرف ضباط مكونين فرنسيين، بصفة التعاون التقني. إن سياسة التكوين العسكري هذه التي وضعت موضع التنفيذ بمساهمة ضباط فرنسيين تهدف إلى توفير الظروف لاستخلافهم، بفضل إعادة تكوين إطارات عسكرية جزائرية شابة في القالب الفرنسي. تنظيم وزارة الدفاع اوالجيش: لقد استحوذ»الفارون» من الجيش الفرنسي على نصيب الأسد من المديريات المركزية لوزارة الدفاع التي وضعوا هم أنفسهم هيكلها. وقد دفع بهم بومدين إلى أعلى الوظائف بحجة الكفاءة والتحكم في التقنية. ويعد عبد القادر شابو الأمين العام للوزارة، هو أكبر مسؤول حقيقي وبدون منازع. ولما كان مشغولا بالاستيلاء على السلطة منذ 1962. وبتقوية نظامه منذ جوان 1965، حاول بومدين إقامة نوع من التوازن بطريقته الخاصة داخل الجيش بين «الفارين» من الجيش الفرنسي وبين ما تبقى من الضباط المجاهدين فقد أسند «للفارين» مهمة تسيير وزارة الدفاع وكذا قيادة الوحدات الاستراتيجية ( مثل فرقة المدرعات، الوحدات المحمولة جوا والطيران إلخ..). وأسند للضباط المجاهدين مهمة قيادة النواحي العسكرية التي كان عددها حسب عدد الولايات، التي انتقلت من 15 خلال 1960 إلى 31 مع الإصلاح الإداري لعام 1976. وبمناسبة كل ترقية للضباط، كان بومدين يرقى في نفس الوقت «الفارين» من الجيش الفرنسي، وقدامى المجاهدين. لكن عندما نلاحظ عن قرب نصيب هذا وذاك، ندرك أن ظاهرة التوازن هذه، ماهي إلا شكلية أو توازن الواجهة، لأنه بدون منازع في صالح قدامى ضباط الجيش الفرنسي. وفي الواقع فإن القيادة الحقيقية للجيش تقع في وزارة الدفاع الوطني، وليس في النواحي العسكرية أو في القطاعات أو في المراكز الشرقية. ففي الحقيقة، فإن تحديد الميزانية وتقسيمها حسب النواحي والقطاعات، مجموع عمليات الإستيراد، تموين الجيش. وكذا لباسه وتجهيزاته وسلاحه ونشاطات البناء وإنجاز الهياكل وكذلك حركة الوحدات من نقطة إلى أخرى عبر التراب الوطني تختص بها فقط وزارة الدفاع. منذ 1962، ألقى بومدين مهمة تسيير وزارة الدفاع على عاتق أمينها العام عبد القادر شابو، الذي يثق به، وعندما جمع بومدين منذ جوان 1965 بين وظيفة رئيس دولة ووزير الدفاع، تصاعدت مهمة الأمين العام بصفة معتبرة، إلى الدرجة التي يشارك فيها هذا الأخير في مجلس الوزراء. إذن كان تنظيم وتسيير، واشتغال الجيش يعود مباشرة إلى الأمين العام لوزارةالدفاع. وبعد وفاة شابو في حادث عام 1971(1)، خلفه عبد الحميد لطرش إلى غاية وفاة بومدين. وخلال العهدة الثانية للشاذلي بن جديد (1984-1988) استفاد «الفارون» من الجيش الفرنسي من ترقيات مذهلة. حيث تسارعت الأمور لصالحهم ابتداء من إقصاء الجنرال مصطفى بلوصيف في عام 1987، وسنفصل في هذه القضية لاحقا. وبذلك تم تعيين الجنرال مصطفى شلوفي (ضابط سابق في الجيش الفرنسي.) أمين عام وزارة الدفاع عام 1986. وتم تعيين «الفار» من الجيش الفرنسي الجنرال خالد نزار قائد أركان الجيش عام 1989 ثم وزيرا للدفاع عام 1990، ليخلفه الجنرال عبد المالك قنايزية «الفار»مثله، على رأسي قيادة الأركان عام 1990، وبذلك تمت الحلقة. فلأول مرة منذ الاستقلال وأصبحت مراكز وزارة الدفاع وقيادة الأركان والأمانة العامة للوزارة بين أيدي الضباط السابقين في الجيش الفرنسي. وفي هذه المرحلة بالذات حدثت واقعتان مهمتان: من إعادة هيكلة الجيش القائمة على تهميش المناطق العسكرية وعلى تعزيز مركزية القيادة لدى الدفاع وقيادة الأركان من جهة، وإنجاز مخطط عمل، وضع حيزا التنفيذ مباشرة بعد انقلاب جانفي 1992(1) من جهة أخرى. وفي عام 1990 تأكد لي ولبعض الزملاء بداية النهاية السياسية للشاذلي بن جديد، الذي ارتكب خطأ تعيينهم جميعا في مراكز استراتيجية جميعا بدون وجود ثقل آخر مواز لهم. وهذا هو الخطأ الفظيع للرئيس الشاذلي بن جديد.
3-2- مصالح الأمن: لقد تطورت مصالح الأمن بين 1962 و1998 حسب التغييرات التي حدثت في قمة الدولة. ولن نقوم بتتبع مختلف إعادات الهيكلة التي عرفت مصالح الأمن خلال هذه المرحلة الطويلة، حيث ظهرت شرطة موازية ثم اختفت حسب الأحداث. لأن هذا لا يدخل في إطار التحري الذي نقوم به حاليا، ولايغير شيئا في المسألة التي تشغلنا والتي تتعلق باستيــلاء»حـــزب فرنســـا» على القطاعات الاستراتيجية. لذلك نكتفي بالحديث عن ثلاث قطاعات رئيسية لمصالح الأمن التي عايشت كل التغييرات وهي: الدرك الوطني، الأمن العسكري، والمديرية العامة للأمن الوطني. الدرك الوطني: يعتبر الدرك الوطني معقل «حزب فرنسا»، وقد اعتبرت بمثابة مديرية مركزية لوزارة الدفاع لمدة طويلة، بين 1962 و1997، أسندت قيادة الدرك على التوالي إلى كل من : أحمد بن شريف (1962-1977) مصطفى شلوفي (1977-1986) وعباس غزيل (1986-1997)، وكلهم ضباط سابقون في الجيش الفرنسي. إن الدرك الوطني يمثل النموذج المثالي للجهاز الذي استثمره منذ نشأته «الفارون» من الجيش الفرنسي، ويتمتع بترتيب خاص، في الاختيار والتجنيد والتكوين على الطريقة الكولونيالية الصرفة. طوال 35 سنة لم يكن على رأس الدرك الوطني سوى ثلاثة شخصيات فقط. إن هذا الاستقرار جعلها غير قابلة لأي إصلاح. ولأنها أداة للقمع ومتمرنة في الرشوة، أصبح الدرك الوطني بمثابة صيد محمي»لحزب فرنسا» ومحمية لفرنسا. الأمن العسكري(1): بخلاف الدرك الوطني التي أنشأت عام 1962 فإن الأمن العسكري يتكون من إطارات»المالڤ» (وزارة التسليح والاتصالات العامة)(2) الذين فروا من الحكومة المؤقتة والتحقوا بالأركان العامة مباشرة بعد الاستقلال. هؤلاء الإطارات ذوو تكوين وتوجه فرنسيين هيمنوا بدون منازع على الأمن العسكري بين 1962 و1999 (في الوقت الذي نكتب فيه هذه الأسطر). إن مسؤولي الأمن العسكري، خاصة الجنرال محمد مدين المدعو توفيق والجنرال اسماعيل العماري (الذين يشغلان مراكزهما منذ 1989 إلى يومنا هذا) معروفون بارتباطهم بفرنسا وبعلاقاتهم مع أجهزة الأمن الفرنسية الخاصة. إن استقرار هذا الجهاز، باستثناء المرور العابر على رأس هذا الجهاز للجنرال لكحل عياط والجنرال محمد بتشين (كلاهما من قدامى المجاهدين، لكنهما مرتبطان»بحزب فرنسا» لأسباب تاكتيكية) سهل توسع النفوذ الفرنسي في دواليبه وفي أجهزة أخرى بمباركته. إن مسؤرليته ثقيلة في هذا المجال، نظرا لاختراق عناصر للإدارة (في مستوى كل مديرية استراتيجية، وكل وزارة، وفي مستوى الولايات والبلديات الهامة اقتصاديا)، وللقطاعات الاقتصادية (الشركات الوطنية الصناعية، المنظمات والدواوين الفلاحية، البنوك، وشركات التأمين إلخ..) وكذلك في قطاع الإعلام والثقافة (لمراقبة وسائل الإعلام، الدفاع عن الفرانكوفونية واللائكية إلخ..) وقد كانت القوانين تقضي بأن الأمن العسكري يعطي الضوء الأخضر لتوظيف وترقية إطارات الدولة. وبذلك نجح الأمن العسكري بحضوره من خلال تعيين رجاله في كل قطاعات النشاط الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي والإداري في البلاد، بفضل شبكة كثيفة على كل مستويات عملية القرار في القطاع العمومي منذ بداية سنوات 1970. المديرية العامة للأمن الوطني: على غرار الدرك الوطني والأمن العسكري، فإن المديرية العامة للأمن الوطني تكفل بها «حزب فرنسا» منذ 1962، حتى ولو كان مختلف المسؤولين المعنيين على رأس هذه الهيئة ينتمون إلى جيش التحرير الوطني. لكن منذ انقلاب جوان 1965، عرفت هذه المديرية استقرارا مذهلا. فخلال 22 سنة أشرف على هذه المؤسسة مسؤولان فقط، بين 1965 و1977 كان يديرها أحمد دراية (ضابط سابق في جيش التحرير) وبين 1977 و1987 الهادي خديري (وصل إلى الحدود الجزائرية التونسية في عام 1961 من فرنسا حيث كان طالبا). لكن توظيف الإطارات وتكوين ضباط الشرطة وكذا اشتغال هذا الجهاز كان يخضع لمعايير وطرق وممارسات من الحقبة الكولونيالية. وبالأحرى فإن علاقات مسؤولي المديرية العامة للأمن الوطني مع أجهزة الأمن الفرنسية الخاصة معروفة جدا في كواليس السلطة. وحتى لو كانت هذه المديرية نظريا تحت وصاية وزارة الداخلية، فإن مديرها العام يقدم مباشرة التقارير لرئيس الدولة منذ عام 1965. لكن عندما وصل زروال إلى رئاسة الجمهورية عام 1994، تم تعيين ضابط في الأمن العسكري هو علي تونسي المدعو «الغوثي» على رأس المديرية العامة للأمن الوطني، وبالتالي وضع حدًا لاستقلالية هذه الهيئة، وجعل زائدة دودية للجيش نفسه، المراقب كلية من طرف قدامى الجيش الفرنسي منذ عام 1989. كذلك منذ عام 1994، وجدت مجموع مصالح الأمن نفسها تحت مراقبة الجيش، ولم يبق لرئيس الدولة سوى المصالح الموازية التابعة لرئاسة الجمهورية والتي لا تتمتع بالفعالية التي تتمتع بها المصالح الثلاثة المذكورة فيما سبق. وخلف هذا المظهر التنظيمي، تختفي في واقع الحال المسيرة الشمولية لمجموعة من الجنرالات ذوي التوجه الفرنسي الصريح. والذين يستثيرون أجهزة الأمن الفرنسية الخاصة(1)، ويسيطرون بدون منازع على الحياة السياسية الجزائرية منذ انقلاب جانفي 1992، ويتحكمون في دواليب السلطة بدون التدخل المباشر في التسيير الكارثي للشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ويجدر بنا التذكير بهذا الصدد أنه بين 1992 و1999، سبق أن مر على الجزائر أربعة رؤساء دولة، ست وزير أول ومئات الوزراء، بينما الجنرالات الأربعة المتورطون في الانقلاب العسكري في جانفي 1992 مازالوا دائما في مراكزهم الخاصة طوال هذه الحقبة(2). إن بعض الأمثلة تستحق الذكر لتوضيح الغموض في تسيير مصالح الأمن. كل أعمالهم تهدف إلى تقوية سلطتهم وضمان استمرارية النظام. التسيير الغامض لمصالح الأمن: خلال سنوات 1960 و1970، كان النظام يستخدم مصالح الأمن لتعزيز سلطته مع احتقار مطلق للصالح العام وللشفافية. وخلال حقبة 1980 تم تدعيم دور مصالح الأمن لتتجه تدريجيا نحو الاستقلالية. إن هذه المرحلة حاسمة وسمحت خاصة للأمن العسكري بلعب دور حيوي في انقلاب جانفي 1992 قبل الاستحواذ على السلطة لصالحه ولصالح الجيش. وفيما يلي سنرى على سبيل التوضيح وبشكل مختصر ، ثلاث مسائل سمحت له بتقوية سلطته منذ سنوات الستينيات عندما كان في خدمة رئيس الدولة، وهي الإقصاء السياسي لمسؤولي جيش التحرير، توسيع مجال تحركهم واللجوء إلى سياسة الإشاعة. الإقصاء السياسي لمسؤولي جيش التحرير: لم يكتف النظام بالتخلص من عدد كبير من ضباط جيش التحرير الوطني، وبتسريحهم منذ 1962 و1963، حتى يتحرر كما رأينا فيما سبق، فكان عليه أيضا إبعاد مسؤولي جيش التحرير من الحقل السياسي، وهم الذين مارسوا مسؤوليات هامة خلال حرب التحرير، لكن النظام قدر أنهم خطيرون، لأن بومدين، (وخارج فريق وجدة(1)) لايريد أن يشرك أيا كان في السلطة. لقد تم إقصاء مسؤولي جيش التحرير مرحلة بمرحلة بعضهم مثل الرائد علي منجلي، العقيد صالح بوبنيدر والعقيد يوسف الخطيب تم ابعادهم عام 1967 من مجلس الثورة، وهو الهيئة العليا في البلاد منذ انقلاب جوان 1965. وآخرون مثل العقيد الطاهر الزبيري، الذي كان قائد أركان الجيش الوطني الشعبي، والعقيد سعيد عبيد، الذي كان قائد الناحية العسكرية الأول، وكلا هما عضو في مجلس الثورة، ومعروفان بمواقفهما تجاه فريق وجدة، ذهبا ضحية مؤمراة جهنمية للأمن العسكري، أدت بهما إلى محاولة الإطاحة ببومدين بالقوة في ديسمبر 1967. وبعد فشل المحاولة فر الأول إلى خارج الوطن أما الثاني فقد ذهب ضحية اغتيال مموه بالإنتحار، نفذ من طرف ضابط سابق في الجيش الفرنسي، الذي سارع إلى البليدة (مقر الناحية العسكرية الأول) بأمر من بومدين وشابو. وآخــــرون أيضا مثـــل العقيد عباس من الولاية الخامسة، الذي كان قائد المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال وعضو مجلس الثورة، ومعروف بخلافاته السياسية مع بومدين، فقد الحياة في «حادث مرور» بين شرشال والجزائر في عام 1968. من جهة أخرى قام النظام ابتداء من عام 1968 بحملة فساد، تستهدف تشويه بعض مسؤولي جيش التحرير الذين أبعدوا سياسيا، بغرض نزع المصداقية عنهم، وغلق المجال السياسي في وجوههم إلى الأبد. ويتعلق الأمر بمنح مساعدات مالية هامة، عن طريق وزارة المالية، في شكل قروض لقدامى مسؤولي جيش التحرير، ونسبة كبيرة من هذه القروض معفية من التسديد، حتى ينشغلوا في الأعمال وإنشاء مؤسسات. وقد منحت لهم إلى جانب القروض تسهيلات مختلفة الأشكال، مثل منحهم قطع أرضية للبناء، استيراد التجهيزات والآلات إلخ.. وقد استفاد عدة عقداء ورواد (جمع رائد) من جيش التحرير من هذه المساعدة (الفخ)(1). بعدها تم تكليف مصالح الأمن بالحط من شأنهم عن طريق الإشاعة. فتم تحطيهم في أوج عطائهم في مجتمع يعلن فيه النظام ارتباطه بالاشتراكية والعدالة الاجتماعـــية.وكان الشعــــار الذي أطلـــقه بومديــن نفســه هو « أن تختار بين الثورة والثروة» كذلك، ومنذ 1969، نجح بومدين في التخلص من قدامى مسؤولي جيش التحرير باعتبارهم خطرا على نظامه وأبعدهم نهائيا من الحقل السياسي. لقد توفــــرت بذلك كـــل الشـــروط حتى يواصل النظام تقويته نفوذه وسيطرته على جميع قطاعات النشاط بكل هدوء. وكنتيجة لذلك توسع نشاط تدخل مصالح الأمن. توسيع مجالات نشاط مصالح الأمن: تعمل مصالح الأمن على تقوية التكنوقراطية في مجموع قطاعات النشاطات بصفة تدريجية. بدأوا أولا باستهداف القطاعات الحساسة التي يريدون ضمان السيطرة عليها. وهذا يعني تقوية حضور مصالح الأمن في وزارات السيادة مثل وزارات الخارجية والداخلية والعدالة. ليس فقط في الإدارة المركزية، لكن أيضا في المصالح الخارجية (سفارات، قنصليات، ولايات، إلخ..) هذا الحضور يتم عبر اختيار الاطارات التي لها علاقة مع مصالح الأمن خلال التعيينات في المناصب العليا. ويتعلق الأمر ثانيا، بتوسيع سيطرتهم إلى الوزارات الاقتصادية، مثل المالية والصناعة والطاقة والفلاحة والتجارة والنقل. وبعد هذه الوزارة، امتدت هذه السيطرة إلى شركات الدولة. إلى الهيئات والمنظمات العمومية ذات الطابع الصناعي والفلاحي والتجاري والمالي وغيرها والتي يحتل فيها المدراء العامون والمدراء مراكز استراتيجية والذين يجب أن يوافق على تعيينهم فيها مصالح الأمن قبل تعيينهم من قبل الوزارة المعنية. وأخيرا، وبعد وزارات السيادة والوزارات الاقتصادية، تدخل مصالح الأمن في إطار تنظيمي محدد(1) خلال اختيار المدراء، ونواب المدراء في كل الوزارت بدون استناء، وكذلك خلال تعيين المدراء العامين في مجموع المؤسسات وهيئات الدولة مهما كانت وحمايتها. ومن خلال هذه الآلية في تعيين الإطارات في المناصب السامية امتدت سيطرة مصالح الأمن بصفة فعالة إلى مجموع الوزارات وكل الهيئات وشركات الدولة في منتصف سنوات 1970. إن متابعة وتسيير الإطارات تضمنه مديرية في رئاسة الجمهورية، ومكلفة بالتنسيق بين مختلف مصالح الأمن. وكان يسير هذه المديرية منذ عام 1979 ضابط سابق في الجيش الفرنسي، ويتمتع بسلطات التحفظ حول مجموع الأجهزة الادارية والاقتصادية في البلاد. ويستخدم صلاحياتها الواسعة لمساعدة الوزارت التي تنتمي إلى التيار الفرانكوفولي، أو لعرقلة من لاينتمي إلى هذا التيار لذلك واجهتني عدة صعوبات لتعيين إطارات عليها في وزارة التخطيط عام 1980(1). كما أنه من رئاسة الجمهورية إلى الولايات، إلى السفارات، إلى شركات الدولة مرورا بكل الوزارات، فإن الاطارات العليا يتم اختيارها من طرف مختلف مصالح الأمن، التي يسيطر عليها «حزب فرنسا». إن الدور الذي تلعبه مصالح الأمن في إجراءات التعيين في الوظائف السامية، سمح لها بامتلاك لشبكة هائلة لممارسة سياستها الخاصة من حين لآخر. إن سياسة الإشاعة وتوجيه الرأي العام من طرف مصالح الأمن لأغراض سياسية تعود إلى سنوات 1960،أي مباشرة بعد الاستقلال. إن مصالح الأمن يتمتعون- في الظل- بسلطة هائلة، فبالنسبة إليهم لاتوجد حدود بين السياسي (الحكومة، جهاز جبهة التحرير) والتشريعي (المترشحون للمجلس الشعبي الوطني يتم اختيارهم من طرف مصالح الأمن) والتنظيمي (يسيطرون على الإدارة) والقانوني (أفضل مجال للتدخل). إنهم يتدخلون في كل المجالات. وفي قمة الدولة، وبالنظر إلى طبيعة النظام ذاته فإن المسؤولين لايهتمون إلا بالحفاظ على مناصبهم في السلطة. إنهم ليسوا موجودين هنا لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لشعب مشغوف بالحرية والعدالة، إنهم هنا للدفاع عن امتيازاتهم وتقوية السيطرة على الحقل السياسي باسم الإيديولوجية الرسمية، إنهم مفصولون عن الواقع الاجتماعي. كما أن تسيير الثروات البشرية والمادية والمالية للبلاد تتم في دوائر مغلقة جدا، وفي السرية والغموض التام. ولأداة للسلطة، أصبحت السرية في أعلى مستويات الدولة وتفرض نفسها في كل الدواليب. إن النظام تسلطي وأبوي، وهو يقصي من مسيرته كل محاولة للشفافية في تسيير الشؤون العمومية. ولهذا سمحت السرية والإشاعة والتلاعب بالمعلومات والتضليل الإعلامي للنظام بالقيام بعمليات لإقصاء رجال سياسيين وإطارات عليا بتهمة أنهم «مزعجون» أو» معيقون». كل هذا مخطط له وينفذ لتحويل الرأي العام عن انشغالاته الحقيقية وطموحاته العميقة. إن هذه العمليات تستهدف في نفس الوقت «إضعاف المصداقية» على النظام بإعطاء الانطباع بأن مايقوم به النظام إنما يقوم به بعد تفكير، وأن ماقام به ملائم وصواب ويستجيب لانشغالات المواطنين. إن مصالح الأمن لهم خبرة في مثل هذه العمليات التي تشكل في الواقع مجالهم المفضل. ويملكون لهذا الغرض أجهزة دعائية حقيقية لتوليد الإشاعة، بغرض إضعاف المصداقية على أشياء معدة سلفا. هذا الأسلوب استخدم خاصة منذ سنوات 1970 لاستثمار الحقل السياسي وتسريع إبراز تيارات فكر سياسي قادر على أن يصبح تيارا شعبيا ويفرض سلميا كبديل ذي مصداقية. في هذا الإطار، لعبت السلطة على محورين: من جهة تجعل اليسار خاصة حزب الطليعة الاشتراكية في مواجهة الحركة الإسلامية. ومن جهة أخرى يوجه الفرانكوفونيين ضد المعربين. ولهذا فإن كل التيارات الفكرية بدون استثناء مخترقة ومحركة من قبل مصالح الأمن. وقد نجحت مصالح الأمن في توليد الإشاعة سواء عن طريق «راديو- طروطوار» (إذاعة الشارع)، أو بواسطة منشورات سرية تحرر وتوزع باسم هذا أو ذاك التيار السياسي الممنوع. وقد فعلوا هذا أيضا لفضح بعض الإطارات أو بعض الحقائق المرتبطة بالرشوة أو بسلوك مشين لبعض المسؤولين بغرض تهيئة الرأي العام لإقصائهم. وقد بلغ اللجوء إلى هذا الأسلوب ذروته خلال سنوات 1990 باختراق والتلاعب بالجماعات الإسلامية المسلحة، والتي يسميها العارفون بالوضعية في الجزائر «الجماعات الإسلامية للجيش» (G.I.A) (Groupes Islamiques de l>Armée). لقد تم توزيع منشورات باسم متطرفي الجماعات الإسلامية المسلحة، بأمر من مصالح الأمن. وكذلك نسبت عدة اغتيالات للجماعات الإسلامية المسلحة ضد مدنيين أبرياء، جزائريين أو أجانب(1) ضد المثقفين والصحفيين وكذلك مجازر جماعية، (مثل تلك التي وقعت في المدية في جانفي 1997، وبن طلحة والرايس وبني مسوس (2)، في ضواحي الجزائر العاصمة في أوت 1997 وجانفي 1998 أو تلك التي وقعت في غليزان في جانفي 1998) والتي لم يسلم منها لا نساء ولا أطفال ولامسنون، وهي في الواقع من تدبير وعادة من تنفيذ مصالح الأمن» سرايا الموت» (وحدات خاصة تحت إشراف الجيش) أو ميلشيات أنشئت من طرف الحكومة ومجهزة من طرف الجيش منذ عام 1994، ويقومون بذلك خاصة لتشويه الإسلام ونزع المصداقية عن الاسلاميين. ويقدمون بذلك أيضا للانتقام من الجبهة الإسلامية للإنقاذ وترهيب(1) مناضليها والمتعاطفين معها، لأن ضحايا هذه المجازر أناس فقراء والذين لاذنب لهم سوى تصويتهم لصالح الجبهة الاسلامية في الانتخابات البلدية في جوان 1990 وفي الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991(2). إن السياسة المكيافيلية للإشاعة بلغت أبعادا خطيرة خلال سنوات 1990، التي وصفت بـ «العشرية الحمراء». ولا تتردد السلطات الجزائرية في اللجوء علنا إلى بعض أجهزة الأمن الفرنسية وإلى بعض الشخصيات الفرنسية، لمساعدتها في توجيه الوقائع والحقائق والقيام بدعاية خبيثة ضد الشعب. لقد تجاوزت سياسة الإشاعة حدود الرعب كل شيء مباح من أجل بعض جنرالات للبقاء في السلطة بالقوة والعنف. لو بقي بومدين الذي يعتز به هؤلاء الجنرالات لما سارت الجزآئر في هذه المغامرة المشينة، لسبب بسيط لأنه لايسند إليهم في نفس الوقت مناصب وزارة الدفاع التي احتفظ بها حتى وفائه، وقيادة أركان الجيش (بقي المنصب شاغرا منذ 1967 بعد تمرد الطاهر الزبيري). وأمين عام وزارة الدفاع، ومسؤول الأمن العسكري. في هذا الحين، فإن تعزيز مكتسبات»حزب فرنسا» لم يتحدد فقط في الاستيلاء على الجيش ومصالح الأمن، لكنها امتدت إلى قطاعات استراتيجية. والتي أسندها بومدين إلى الأوفياء منذ سنوات 1960، والذين أصبحوا النواة الصلبة للنظام.
الفصل السابع
تعزيز التكنوقراطية الفرانكوفيلية والمافيا البيروقراطية: نواة النظام الصلبة: بعد انقلاب جوان 1965، أقام بومدين هيئتين وكان يرأسهما: مجلس الثورة(1) المؤتمر الجديد للسيادة الوطنية، والحكومة التي لاتتمتع سوى بالسلطات التفويضية. ولاينتمي إلى هاتين الهيئتين سوى فريق وجدة الذي يمثله عبد العزيز بوتفليقة وأحمد مدغري وشريف بلقاسم وقايد أحمد، إذا استثيئا بشير بومعزة وعلي مهساس الذين غادروا الجزائر عام 1966 للدخول في المعارضة. ولما كان النظام الجديد لايفصل بين السلطات. أصبحت مراكز القرار مجتمعة بين يدي فريق وجدة الذي يشكل نواة النظام الصلبة. وحتى يضع مشاريعه موضع التنفيذ، كان بومدين يرتكز على أربعة هيئات تشكل الحلقة المغلقة للسلطة، لتقوية نظامه، وهي وزارة الشؤون الخاريجية. ووزارة الداخلية، ووزارة المالية، ووزارة الصناعة والطاقة. لنر الآن بطريقة سريعة. كيف ساهمت الوزارات الثلاث الأخيرة في تعزيز التكنوقراطية ذات التوجه الفرنسي.
1 - وزارة الداخلية: لقد لعب أحمد مدغري، وزير الداخلية لمدة 12سنة(2)، بدون شك دورا حاسما في تقوية النظام وتعزيز البيروقراطية وتمكين «حزب فرنسا» في الإدارة. لقد كان معجبا بنابوليون، فاعتبر مدغري الإدارة الفرنسية نموذجا، وطالب مع آخرين بالإبقاء على القوانين الفرنسية «إلا في حالة تعارضها مع السيادة الوطنية» حسب العبارة المستخدمة. وتشجع أيضا الإبقاء على اللغة الفرنسية في الإدارة. لضمان إستمرارية تأثير الثقافة الفرنسية أنشأ منذ الستينات المدرسة الوطنية للإدارة، التي تقوم بتكوين الموظفين حسب النمط الفرنسي، لوزارته (ذات المستويات الثلاث: مركزي،جهوي وبلدي). وكذلك لوزارات أخرى، خاصة وزارة الشؤون الخارجية. وحتى وفاة مدغري، لم يكن التعليم في المدرسة الوطنية باللغة الفرنسية فحسب، بل كان يقوم به أيضا مدرسون فرنسيون في إطار التعاون التقني والثقافي. ولمدة طويلة، ظل المعلمون الجزائريون الوطنيون والفرانكوفونيون (باسثناء مدرسان أو ثلاثة الذين ينتمون إلى التوجه الفرنسي) غير مرغوب فيهم في هذه المدرسة. وبتسلطه وضع أحمد مدغري إدارة شديدة المركزية وأوكل تسييرها إلى إطارات ذوي التوجه الفرنسي، فهم رجال ثقته. فالأمانة العامة والمديريات ونيابة المديريات في وزارة الداخلية وكذا الولايات أسند مسؤولياتها لرجال ثقة. بومدين مدين كثيرا لمدغري الذي نجح في بناء إدارة بحسم لتقويته النظام وإضفاء الشرعية عليه، وفي هذا الإطار لعب مدغري الدور الرئيسي في عملية إصلاح المؤسسات المحلية وإنشاء المجالس الشعبية البلدية والولائية في عام 1969(1). لكنه عزز في نفس الوقت سلطه الوالي على حساب المجالس المحلية المنتخبة. فالوالي ليس رئيس الإدارة المحلية فقط. بل إنما تتوسع صلاحياته إلى المجال الاقتصادي. وفي هذا الاطار فإن الإستثمارات فيه لامركزية، ووضع «البرامج الخاصة» التي بدأت عام 1966 وكذا مختلف الأعمال الاقتصادية والاجتماعية في ولاية معينة، تمثل نعمة للوالي المعني. إن «البرامــــج الخاصــــة»(2) بالولايــــات تتقرر خلال زيارة رئيس الدولة، وتهدف نظريا إلى تصحيح الإختلال الجهوي. هذه البرامج شرع فيها بين 1966 و1978 (أي قبل وفاة بومدين) وهي عبارة عن تاريخ برنامج خاص واحد فقط سنويا لكل ولاية. غير أن هذه البرامج الخاصة لا تتناسب مع نظرة حقيقية شاملة لتلافي الفوارق الجهوية، ولا تضمن الانسجام الشامل. ويتعلق الأمر في الواقع بذرّ القروض عبر مختلف التراب الوطني بمناسبة الزيارات الرئاسية. وهذا يعكس جيّدًا المفهوم الأبوي للسلطة. «إن البرامج الخاصة» وكذا نفقات التجهيز الأخرى، ومختلف الامتيازات التي يتمتع بها الوالي في منح القروض والمشاريع وتوزيع السكنات وأراضي البناء، إلخ.. تمنحه سلطة واسعة جدا، وتحولت من حين لآخر، إلى تبذير للثروات، والثراء الفاحش والرشوة بسبب غياب العدالة وغياب السلطة المضادة على المستوى المحلي. إن مثل هذه الممارسات أدت إلى انحراف الإدارة عن مهمتها الحقيقية من خدمة الشعب إلى تنمية العصب. كما دعم سلوك الوالي القطيعة بين البيروقراطيين والمجتمع الجزآئري، وغذى أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم والتي تطورت على مر السنيين.
2 - وزارة المالية والتخطيط: اهتم بومدين منذ البداية بوزارة المالية والتخطيط لمراقبة تسيير الخزينة والنفقات العمومية. لذلك أسند هذه الوزارة إلى ڤايد أحمد (1969-1967) ثم شريف بلقاسم (1967-1971)، الذي كان مقربًا جدا من ببومدين(1). ومايهم السلطة أكثر في هذه الوزارة، ليس إدارة التخطيط، بل إدارة المالية المكلفة بمراقبة حركة رؤوس الأموال الداخلية والخارجية، وتمويل مشاريع التنمية والإشراف على مجموع النشاطات الاقتصادية للبلاد. وفيما يتعلق بإدارة التخطيط، فإنها ظلت جزءًا من وزارة المالية إلى غاية إنشاء كتابة دولة للتخطيط. وكان يسيّر إدارة التخطيط لمدة 13 سنة (حتى مارس 1979) فريق من أربعة إطارات يشرف عليهم عبد الله خوجة، ويتكون من محمود أورابح (2) غازي حيدوسي وبراشمي(1) والذين احتفظوا جميعهم بارتباطات مع فرنسا، ويعتبرون النظام الحضاري الفرنسي نموذجا مفضلا، ولهم اتصالات دائمة مع الأجهزة والهيئات الرسمية الفرنسية طوال إنجاز مهامهم. لقد بدأت أشغال التخطيط الأولى عام 1966 خلال إنجاز آفاق الحقبة (1967-1973) التي تكمن في تمديد «مخطط قسنطينة» الذي أعلنه ديغول عام 1959. هذه الآفاق سمحت بتحضير المخطط الثلاثي (1967-1969). ثم كان بعد ذلك المخطط الرباعي (1970-1973) الذي عرض على الحكومة وصادقت عليه بأمر. بينما، لم تتم المصادقة على المخطط الرباعي الثاني(1974-1977) بأمر، بعد دراسته في اجتماع مجلس الثورة ومجلس الحكومة هذا يكرس القليل من الاعتبار الذي في نظر إدارة التخطيط بقي ثانويا، حيث اعتبر دور التخطيط إداريا محض. وفي الواقع، ومنذ انشاء كتابة للتخطيط، فإن تخطيط الاستثمارات صاحبته مركزية قرار الاستثمار بالتأكد. إن قرار الاستثمار هذا، والمجسد بعقد إداري يعرف باسم»قرار الفردانية سمح لكتابة التخطيط بفحص مدى مطابقة مشروع استثماري محدد مع المخطط الوطني للتنمية. لكن هذا القرار الذي كان من المفروض أن يسمح بمراقبة التكاليف، ومواقع الاستثمار إلخ.. تحول بسرعة إلى رخصة إدارية بسيطة وروتينية إن مثل هذه الممارسات حولت كتابة الدولة للتخطيط إلى مجرد غرفة تسجيل المشاريع المقدمة من مختلف القطاعات التي ساهمت في إضعاف نظام التخطيط بسبب غياب الانضباط وقلة الدقة التقنية- الاقتصادية لمشروع محدد. وعندما يتخذ القرار بالمواقفة، يتدخل القطاع المالي لدراسة وإقرار مخطط تمويل المشروع. وبينت التجربة أن مخطط التمويل عادة مايكون غير مناسب، وهو واحد من أسباب إعادة تقويم المشروع الاستثماري. إن الفارق الزمني بين القرار المعتمد من قبل إدارة التخطيط. وقرار التمويل الذي تتخذه وزارة المالية، يبين غياب التحكم في عملية التخطيط على مستوى المؤسسات (تقويم ناقص للمشروع ونقص الدقة حول مختلف أبعاد المشروع) وعلى مستوى الوزارات المعنية (ممارسات بيروقراطية وتباطؤ إداري). من جهة أخرى، لم يكن للتخطيط أي معنى مع توسيع برامج الاستثمارات الصناعية ومع اللجوء إلى الشركات الأجنبية وإلى المساعدة التقنية الأجنبية الكثيفة (خاصة الفرنسية كما سنبين ذلك لاحقا) لإنجاز مثل هذه الاستثمارات ولتشغيل الوحدات الصناعية القائمة، خاصة بعد 1973 مع ارتفاع أسعار النفط. لقد خلقت مشاريع الاستثمارات الصناعية الكثيفة توترات في استخدام الثروات البشرية والمادية النادرة (قلة وسائل الإنجاز، ضعف شبكة الاتصالات، قلة الموانئ إلخ..) والثروات المالية (تراكم المديونية الخارجية بسبب اللجوء المتتالي إلى السوق المالية الدولية، بشروط قاسية بين 1974 و1978). باعتبارها وكر «حزب فرنسا»، فإن وزارة المالية ضمت دوما مع بعض الاستثناءات مسؤولين وتكنوقراطيين من التيار الفرنسي ونسجل أن التشريعات والتنظيمات الفرنسية التي تعود إلى العهد الاستعماري استخدمت كسند لتشغيل المؤسسات المالية كحوالي 30 سنة ببدائية مزمنة. وبالطبع، فإنه بين الحين والآخر يتم إدخال تعديلات خاصة بالضرائب والجمارك والخزينة، إلخ.. لكن وبصفة عامة، فإن المنظومة التشريعية التي تحكم الجزائر في هذا الإطار ظلت غير مطابقة مع مستلزمات التنمية الاقتصادية، والفعالية الاقتصادية، والشفافية في تسيير الشؤون العمومية. ونأخذ هنا ثلاثة أمثلة: سياسة القرض، النظام الجبائي وإدارة الجمارك. ففيما يتعلق بسياسة القرض، فهي غير ملائمة منذ عام 1960، فمشاكل جمع التوفير والتوسط المالي، أحملت كلية من قبل النظام البنكي، بسبب الطابع التوجيهي والصارم لمديرية الاقتصاد وتحويل الثروات وفي حقيقة الأمر أصبحت البنوك تقوم بدور القابض والمراقب المالي للمؤسسات الاقتصادية العمومية وفي هذا الإطار لا تتدخل البنوك في مهام تصميم وتحليل وتقويم المشاريع، وهي المهام التي تعد من اختصاصاتها. وإذا كانت البنوك نادرة التدخل في التمويل القصير المدى للشركات الوطنية، خاصة من خلال منحها قروضا في شكل سحب على المكشوف (de couvert)، لتمويل رأس مال العمل، بالنظر إلى اتساع الإفلاس الدائم لشركات الدولة. إن تصاعد السحب على المكشوف للشركات العمومية أدى إلى تصاعد سلطة البنوك. وأدت هذه الوضعية بالبنوك إلى تجميد حسابات شركات الدولة كلما بلغ الحساب على المكشوف أو تجاوز حدا معينا. وبدلا من أن تقوم البنوك بتقديم المشورة ومساعدة زبائنها من الشركات، أصبحت عائقا لها. إن تجميد حسابات الشركات العمومية انعكس عليه توقيف الورشات، والتأخر في إنجاز المشاريع، وتضاعف قيمة المشروع، وأعباء المؤسسات المعنية. إن البنوك التي تنتمي -مع كل هذا- إلى الدولة، لا تهتم قط بالصالح العام، أو الفاعلية الاقتصادية للنظام البنكي والاقتصادي، لكنها تهتم فقط بتصاعد دورها تجاه المتعاملين الاقتصاديين العموميين بزيادة متاعبهم. وفيما يخص النظام الجبائي للبلاد، فهو نظام معقد وغامض وكثيف وغير ملائم، وهو نظام بالٍ وبطيئ ولا يستجيب إطلاقًا لمتطلبات عصرنة الاقتصاد. وأصبح عكس ذلك تماما حاجزا أمام مجهود التنمية. إن القطاع الخاص والأشخاص يعانون كثيرا من هذا النظام الذي فتح المجال للتجاوزات والرشوة ولكل شكل من أشكال الظلم. أما بالنسبة للجمارك، فإن إجراءات التعامل معها معقدة وبطيئة وتشكل عائقا إضافيا للاقتصاد الوطني، وتؤدي عادة إلى حبس آدوات التجهيز والمنتوجات الصناعية في الموانئ لمدة سنوات(1). حتى فيما يخص سلعا نادرة وقابلة للفساد مستوردة من الخارج، والتي انتهى الأمر بإتلاف بعضها وحرقها، مسببة خسائر هامة للاقتصاد الوطني. إن حقوق الجمركة على مواد التجهيز، والمواد النصف منتجة والمواد الأولية المستوردة والموجهة إلى انتاج منتوجات جزائرية مرتفعة أكثر من الحقوق المطبقة على المنتوجات الجاهزة والمنافسة المستوردة. إن تعقد التنظيمات والبيروقراطية وعدم الصرامة شجعت نمو الرشوة على حساب المصلحة الوطنية. نستنتج من هذه الأمثلة الخاصة بسياسة القرض، والضرائب والجمارك، التي ذكرناها على سبيل التوضيح إن إدارة المالية التي تسير بطريقة بدائية من قبل موظفين وتشريعات موروثة عن الحقبة الكولونيالية، تشكل عقبة أمام مشاريع التنمية وعصرنة الاقتصاد، ويؤدي إلى تبذير هام للثروات المالية والمادية للبلاد. فمن يستفيد من وراء هذه السياسة؟ وهل هذه الوضعية تسبب فيها عدم كفاءة الموظفين أم هي نتيجة إرادة مقصودة لعرقلة الاقتصاد؟ أم للاثنين معا؟ على مستوى وزارة المالية والتخطيط. وعلى غرار الوزارات الأخرى يوجد مستويان للقرار. ففي المستوى الأعلى، يختص الوزير بالقرارات المالية ذات الطابع السياسي، ويكون الوزير محاطا بفريق من رجال الثقة. وليست الكفاءة التقنية لازمة في هذه الحلقة الضيقة. أما المستوى الثاني فيخص المديريات المركزية ونيابة المديريات بالوزارة. وفي هذا المستوى يتم صياغة وضبط القرارات الخاصة بالميزانية، والخزينة والجباية والجمارك، أي كل القرارات التي لها علاقة بسير الوزارة. إن العمل التقني والإداري التحضيري يتم في هذا المستوى. وإنه لمن النادر أن يرفض الوزير أو يشكك في الاقتراحات أو القرارات التي يتخذها المدراء ونوابهم في وزارته. وفي الواقع فإن السلطة الحقيقية تتحكم فيها الأجهزة. الوزراء يذهبون والأجهزة تبقى. وخلاصة القول، سواء تعلق الأمر بوزارة المالية أو إدارة التخطيط، فإن الأشكال الممركزة للتصميم والتوجيه والتسيير الإداري للاقتصاد، همشوا روح المبادرة وتحفيز الإطارات النزيهة والمتشبعة بالقيم الوطنية، وقضى على المسؤولية والفاعلية في الأعمال المتخذة على حساب الصالح العام. إن التباين بين التكنوقراطيين الموروثين عن السلطة الاستعمارية، فكريا وعقليا، والمجتمع الجزائري لم يسلم منها القطاع المكلف بتسيير المجالات الاستراتيجية للمحروقات والمداخيل النفطية وعصرنة الاقتصاد وبعثه.
وزارة الصناعة والطاقة: كانت وزارة الصناعة وكذا قطاع المحروقات التابع لها بين 1965 و1977 هي الوزارة المفضلة في استراتيجية العصرنة لبومدين. وقد أسند هذه الحقيبة الوزارية إلى بلعيد عبد السلام في جوان 1965. هذا الأخير معروف بأنه شخصية غريبة، يتميز بمزيج من الشيزوفرينية التسلطية والتشدد والخيلاء والوقاحة والحقد والتعجرف والرشوة(1). يختفي وراء خطابه الاشتراكي، لكنه في الواقع يخفي إعجابه بالنموذج الأمريكي والياباني على المستوى الاقتصادي، وإعجابه بالنموذج الأمريكي والياباني على المستؤى السياسي (قبل الثورة ) وبأسلوبه الستاليني، يحب تكرار أمنيته في جعل الجزائر يابان العالم الثالث أو روسيا المغرب العربي وإفريقيا. ويتقاسم بلعيد عبد السلام مع بومدين مذاق سياسسة الرفاهية وحب العظمة، إنهما يعتقدان أن البترول والغاز الطبيعي يزودانهما بالمصادر المالية الضرورية لتحقيق مشروعهما الصناعي العظيم بسرعة، وسنرى لاحقا، الخسائر والنتائج المأساوية على الاقتصاد الجزائري لسياسة التصنيع هذه. عبد السلام بلعيد، مهوس بتكوين اقتصادي سطحي(1)، وله ارتباطات مع بعض الجامعات الفرنسية ومكاتب دراسات فرنسية، والتي تقدم له عناصر سياسته» الصناعة التصنيعية». وقصد تنفيذ مشروعه التصنيعي، أحاط بلعيد عبد السلام نفسه بإطارات جزائرية مقربة منه، ومعروفة بتوجهاتها الفرنسية، والتي نصبها في مناصب عليا بوزارته وعلى رأس شركات الدولة الواقعة تحت وصايته. لقــــد استدعى فرنســـيا يدعى كاســتـــل (Castel)، وعينــــه أمــــين عـــام لــوزارة الصناعة والطاقة، وغير كاستل إسمه وجنسيته مقابل هذا المنصب الاستراتيجي جدا. ويعتمد عبد السلام بلعيد أيضا على إطارات فرنسية من الذين تتكفل بهم شركات الدولة. ويطلب من مستشارين فرنسيين دراسات باهضة التكاليف حول بعض المشاكل الاقتصادية التي يجهلها، ويستخدم بعدها الحجج (غير محايدة أبدا) التي تقدمها له هذه المكاتب في نشاطاته الوزارية. وبصفة عامة، فإن مكاتب الدراسات الفرنسية هذه تحضر لبلعيد عبد السلام العناصر التقنية الاقتصادية التي تهدف إلى تبرير التسيير الدولتي للاقتصاد، أو لابرام عقود مع هذا المزود أو ذاك. وبعبارة أخرى، فإن مكاتب الدراسات الأجنبيـة، خاصة الفرنسية، هي التي تنجز في الواقع السياسة الصناعية للجزائر، وبتوجيـــه واردات الجـــزائــر للمـــواد والخـــدمات في المجــــال الصنـاعي وكذا تدفق رؤوس الأموال. وهذا هو الإطار الذي تم فيه تصميم التصنيع الكثيف ووضعه حيز التنفيذ، وإيهام الرأي العام الجزائري بأن ذلك اختيار وطني مستقل، ومنبثق عن سياسة وطنية وإشتراكية. إن الخطاب الوطني والتصنيع ( المدعم من قبل البيروقراطيين ورجال الأعمال الذين يعنيهم الأمر، وممثلي الشركات المتحدة الجنسية الشديدة الجشع) يسعى إلى التأكيد أن مضاعفة الصناعة الثقيلة تؤدي إلى تنمية التقدم التقني على الاقتصاد الوطني. وهذا يؤدي إلى إبراز الجزائر كدولة حيوية ذات رفاهية وواحدة(راجع الأصل)، ولها ثروات حقيقية وهامة قادرة على أن تجعلها قوة اقتصادية جهوية في أقرب الآجال. كل الحجج جميلة لدغدغة العواطف الوطنية النبيلة. وكذلك تم ترتيب كل شىء لإخفاء الخسائر الهامة التي ألحقت بالجزائر بسبب التبذير والرشوة الناجمة عن سياسة التصنيع هذه. إن الخطاب الإشتراكي، الذي لا يؤمن به أحد في أعلى هرم السلطة، يوظف لتبرير التقشف المفروض على الشعب وليس على المسؤولين الذين لا ينقصهم شىء، بحجة أن التضحيات والتطبيقات المفروضة على الأجيال الحالية، بإمكانها ضمان رفاهية الأجيال القادمة(1). هذه السياسة التصنيعية تكشف في الحقيقة الإرادة البشرية لبلعيد عبد السلام وفريقه في التأكيد وبأي ثمن أن الطبقة المسيرة تمتلك السلطة الاقتصادية والسياسية، دفع الفريق إلى تعزيز سيطرته على المداخيل البترولية. ومقابل ذلك ظل بلعيد عبد السلام على الصعيد الخارجي ولسنوات طويلة متوجها نحو فرنسا. فبين أعوام 1965 و1970 اعتقد بلعيد عبد السلام في امكانية التعاون مع فرنسا لترقية التصنيع في الجزائر، كما تشهد على ذلك الإتفاقيات الجزائرية- الفرنسية حول المحروقات، التي تفاوض فيها ووقع عليها بنفسه في عام 1965، إلى جانب العديد من العقود المبرمة بين شركات الدولة الواقعة تحت وصايته والشركات الفرنسية خلال هذه الفترة. ولم تؤد المحن الناجمة عن هذا التعاون اللامتوازن والذي هو في صالح فرنسا، والصراعات الناجمة بين المصالح الجزائرية والمصالح الفرنسية، والطابع النيوكولونيالي المعلن عنه من قبل المتعاملين الفرنسيين، ببلعيد عبد السلام خلال نفس الفترة إلا إلى إعادة الاعتبار إلى التعاون الصناعي مع فرنسا وإلى إعادة التوازن، على الرغم من الخسائر العديدة التي لحقت بالجزائر كما سنبين ذلك لاحقا. وكان يجب الانتظار إلى بداية سنوات 1970، عندما وصلت المفاوضات الجزائرية الفرنسية حول المحروقات إلى طريق مسدود، والتي تبعها قرار تأميم البترول والغاز الطبيعي الذي اتخذه الرئيس بومدين نفسه في شهر فيفري 1971، ليغير بلعيد عبد السلام الوجهة، ويتجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية.ففي هذا الإطار الذي وقعت فيه سنوطراك عقودا هائلة مع الشركات الأمريكية، لإنجاز تكرير الغاز في أرزيو (قرب وهران)، ولتصدير الغاز الطبيعي المكرر نحو الولايات المتحدة. أمام هذه الوضعية الجديدة، ترددت السلطة بعض الوقت بين سياسة مؤيدة لإبقاء التعاون مع فرنسا التي يدعمها فريق وجدة، وسياسة حيوية لتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة التي اقترحها بلعيد عبد السلام وانتهى بومدين بالفصل لصالح سياسة وزير الصناعة، أي لتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة. ربما تستجيب هذه السياسة لرد فعل وطني من قبل بومدين ليحافظ على استقلالية القرار الجزائري بتنويع مبادلاته الخارجية. لكن هذه السياسة تعكس في نفس الوقت إرادة بومدين في تقوية سلطته بزيادة الإنجازات الصناعية. وفي الحقيقة، فإن بومدين وبالنظر إلى تكوينه يظل يعتقد دائما أن نقل التكنولوجيا يمكن شراؤه بالعملة الصعبة مثل أي منتوج أو خدمة مستوردة. لقد كان يظن أن مداخيل النفط يمكنها أن تضمن التطور الاقتصادي والتقني للجزائر، وتحقيق الإنطلاقة الاقتصادية والعصرنة. وكان يجب الإنتظار إلى غاية سنوات 1980 و1990، لتستفيق من وهمها سياسة التصنيع هذه التي انتهجتمها السلطة، والتي كلفت الجزائر غاليا، والتي لم يستفد منها سوى عصبة من الجزائريين، والتي خدمت أكثر الشركات الأجنبية من الشعب الجزائري(1). وفي هذا المستوى من التحليل يجب أن نذكر بظروف تقوية النظام والنتائج المأسوية لسياسته القائمة على هيمنة الدولة، والوصاية لتبيان حجم الخسائر والأضرار التي لحقت بالاقتصاد والشعب الجزائري.
4 - النتائج المأساوية لتعزيز الدولة التسلطية وهيمنة الدولة على الاقتصاد: في نهاية كل أزمة من أزمات النظام (1962، جوان 1965، ديسمبر 1967)، يعزز بومدين قليلا موقعه بإقصاء مسيرين بحجة أنهم «مزعجون»، ومن نجاح إلى آخر كان بومدين يقوي نظامه على مرّ السنين، لكن في بداية 1970، عندما حاول أن يبقي بعض البعد بينه وبين رفاقه المعروفين بالنواة الصلبة للنظام، وجد فريق وجدة نفسه في أزمة عميقة، والتي لا تنتهي إلاّ بعد إبعاد شريف بلقاسم، ونفي ثم «موت» ڤايد أحمد، و»انتحار» أحمد مدغري عام 1974. لقد وضع انفجار فريق وجدة وتجميد مجلس الثورة أو ما تبقى منه (بعد الاقصاء السياسي أو الجسدي لكثير من أعضائه) حدا لكل شكل من أشكال الجماعية، وهو المبدأ الذي استخدمه بومدين نفسه لتحييد الحكومة الجزائرية المؤقتة، والإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة. إن إلغاء مبدأ الجماعية، القاعدة الذهبية للثورة، يؤكد الطابع الشخصي للسلطة، ويرسّم تقديس الشخصية. كما أن المصادقة على الميثاق الوطني والدستور عن طريق الاستفتاء وكذا الانتخابات الرئاسية المنظمة عام 1976، والمتبوعة بالانتخابات التشريعية عام 1977، تهدف كلها إلى إضفاء الشرعية على السلطة، فأصبح بومدين بفعل تلك لتزكية الشرعية التي كانت تنقصه، ويسود بدون منازع. هذا المعطى الجديد، كان في صالح «حزب فرنسا» والذي كان ممثلوه مقربين من بومدين ويحتلون مناصب استراتيجية برئاسة الجمهورية، ووزارة الدفاع، وفي كل مكان تقريبا كما سبق تبيانه في الفصول السابقة، فهم يفضلون، في الواقع، أن يكونوا في مواجهة مسؤول واحد فقط، والذي نجحوا في «الإحاطة به»، من مواجهة فريق أو إدارة جماعية، فلم يبق لهم سوى انتظار الفرصة السانحة لأخذ السلطة مباشرة. لكن إضفاء الشرعية على السلطة الشخصية والتسلطية لبومدين لا تخفي بشكل جيّد عدم الاطمئنان السياسي والأزمة القائمة منذ مدة والتي تتجلى في شكل انتقادات علنية عبّرت عنها القاعدة ضد النظام القائم. فالنقاش العام حول الميثاق الوطني في عام 1976، يُعتبر مثالا حيّا، فقد أوضح ذلك النقاش الهوة السحيقة بين نظام مرتشي، عاجز، ومرفوض، وبين الشعب الذي لم يهتم ذلك النظام بانشغالاته الرئيسية، وقد سمح هذا النقاش على أية حال للعديد من الجزائريين بالتنديد العلني ببارونات النظام عبر وسائل الإعلام، وبالتعبير عن أملهم في تغيير الرجال والسياسة. إن مثل هذه التنديدات التي لم تعجب بومدين، لم تجعله يقصي المسيرين المرتشين والذين تم التنديد بهم علنيا، بل جعلته يضعف أولئك المسؤولين حتى يسيطر عليهم أكثر. إن بومدين المعروف بازدرائه للشفافية والديمقراطية، لم يستفد من ذلك النقاش العمومي لاستخلاص الدروس من حقبة من السلطة بكل نتائجها المأساوية، سواء على الصعيد السياسي حيث لا يسمح بأي معارضة أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.(1) وفيما يتعلق باستراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد أوكلها بومدين إلى وزيره للصناعة والطاقة، لاقتناعه بالدور الحاسم للقطاع الصناعي في عصرنة الاقتصاد. 4-1- اعتماد استراتيجية تنموية ذات نزعة فرنسية: إن دراسة استراتيجية التنمية المعتمدة للجزائر في عام 1966، تبين أنها كانت متأثرة بالمبادئ النظرية لاقتصاديين فرنسيين، خاصة مدرسة «فرانسوا بيرو».(1) نذكر أيضا، أن التحليل الذي قام به ف. بيرو حول الظروف التاريخية للتنمية في أوروبا الغربية، أبرزت الدور المركزي الذي لعبه القطاع الصناعي في القرن 19،(2) لتوزيع التطور التقني في النسيج الاجتماعي، وتنمية قطاعات النشاط الأخرى. في هذا الإطار، يعتقد فرانسوا بيرو أن التصنيع عملية تثير «عوامل استقطاب» تؤثر على المحيط العاطل عبر نشاطات ممركزة في «أقطاب تنموية» و «أقطاب التكاثر» و «صناعات محركة» في شكل (راجع الأصل) أثر «عوامل تمرين»، كما بيّن ذلك، هيرشمان(3)، هذا الكتاب بدوره ينصح بأن توجه الاستثمارات في البلدان المتخلفة نحو «الصناعات المحركة» حتى تقلل من عوامل التخلف. ويقدر أن أي استثمار يترك على المحيط الاقتصادي، أثرين: أثر في أعلى مستوى، وأثر في أدنى مستوى. وأن المزج بين هذين الأثرين يسمح بفضل جدول المبادلات ما بين الصناعية من قياس قوتهما وتوجيه الاستثمارات بهدف الحصول على «نتائج الانتشار» الأكثر فاعلية. وبدون شك، فإن ج. ديستان دو برنيس (G. Destanne de Barnis) تلميذ فرانسوا بيرو، هو الذي أثّر على بلعيد عبد السلام وعلى محيطه، في تعريف «النموذج الجزائري للتنمية» الذي صمّم في ڤرونوبل بفرنسا، هذا التأثير تجلى في المستوى النظري والميداني، وتعزّز بمعرفة رجلين في تونس قبل استقلال الجزائر. فعلى المستوى النظري، فإن أعمال هذا الكاتب التي نشرت عام 1963، حول الاختيار بين الصناعة الثقيلة والصناعة الخفيفة، وفي عام 1966 حول «الصناعات التصنيعية» و»التكامل الجهوي» أثارت إعجاب أصحاب القرار التصنيعيين الجزائريين. وعلى المستوى الميداني منح ج. ديستان دوبرنيس لوزارة الصناعة دراسات ضخمة بمقتضى عقود هامة. وبصفة موجزة، فإن تحليل ج. ديستان دو برنيس، يقوم على أن زيادة المبادلات بين مختلف الفروع الصناعية للاقتصاد الوطني بهدف ضمان الحيوية «الصناعية» يتم بفضل الاستخدام الداخلي للمنتوج الصناعي المتصاعد في القطاع الصناعي نفسه. وهكذا تمّ اعتبار صناعة الحديد والصلب، والصناعة الميكانيكية والبتروكيماوية، والكيماوية والإلكترونية «صناعات تصنيعية». فقد فصل الكاتب لصالح الصناعات الثقيلة، التي يمكنها رفع نسبة نمو المنتوج الخام في أجل محدد. إن مركبات الصناعة الثقيلة ستترك أثارا قوية ليس في القطاع الصناعي فحسب، بل أيضا في قطاعات النشاط الاقتصادي الأخرى مثل الزراعة والنقل. إن تخطيط «الصناعات الصناعية» لن تكون صحيحة إلاّ إذا قامت بها الدولة، حسب نفس الكاتب، وبهدف اللحاق بركب البلدان الصناعية منذ أكثر من قرن، فإن تدخل السلطات العمومية في منح الاستثمارات يسمح بتوجيه رؤوس الأموال نحو صناعة مواد التجهيز، والتي مردوديتها ليست آنية، لكن لها آثار هامة على المدى البعيد وتدفع البلدية في عملية حيوية من التنمية المستقلة. وفي هذا الإطار بالذات، منحت السلطة الأولوية المطلقة للقطاع الصناعي، بهدف استدراك التخلف في أقصر وقت، فتم منح القطاع العمومي في الجزائر في نهاية القرن العشرين نفس الأولويات التي عرفتها الرأسمالية الصناعية في القرن 19 في أوروبا وفي مناطق أخرى. إن إعادة تطبيق النموذج الصناعي الأوروبي في القرن 19 في الجزائر المعاصرة، وتشبيه الرأسمالية الصناعية في أوروبا برأسمالية الدولة في الجزائر، تحمل العديد من النقائص سواء على المستوى النظري أو على المستوى الميداني. ونسجل أن الاختلاف الهيكلي بين التطور التاريخي للرأسمالية الصناعية في أوروبا خلال القرن 19، والوضعية الاقتصادية في الجزائر خلال سنوات 1960 عديدة جدا، نكتفي بذكر ثلاثة أمثلة منها فقط. 1 - إن تراكم الإنتاج في أوروبا استفاد من محيط دولي ملائم جدا، بالنظر إلى الدور الحاسم الذي لعبته عوامل خارجية خاصة المستعمرات، بينما تطورت الجزائر خلال سنوات 1960 و1970 في محيط دولي غير ملائم تماما، يتميّز بالتبادل غير المتكافئ وتدهور تجارة البلدان النامية، وعولمة الاقتصاد القائمة على تركيز الثروة العالمية بين أيدي الأقلية وعلى تدويل التمويل والإنتاج والتسويق، ونظام ظالم يهدف إلى زيادة تفقير الأكثر فقرا. 2 - إن وجود سوق داخلية هامة، بسبب زيادة الشغل نجم عنها في أوروبا في القرن 19، زيادة الاستثمارات في صناعة مواد التجهيز التي ساهمت بدورها في ارتفاع «الطلب الحقيقي» وفي خلق فرص استثمار صناعية جديدة لإنتاج مواد صناعية استهلاكية وهكذا. وبكلمة واحدة، فإن عوامل زيادة الاستثمارات المنتجة كانت داخل البلاد نفسها أو في النظام نفسه، وهذا لم يكن في الجزائر، حيث كانت الاستثمارات في الصناعة القاعدية، شديدة الرأسمالية وخلقت مناصب شغل قليلة، وكانت عوامل الزيادة خارج البلاد وليست بداخلها. 3 - إن اختلاف مستويات التنمية بين النظام الرأسمالي في القرن 19 واقتصاد متخلف، مفكك ومهيمن عليه في القرن 20، ليس اختلافا في الدرجات، بل في الطبيعة والهياكل والنظام. إن تطبيق مثل ذلك المفهوم للتنمية في الجزائر تكشف المقاربة الخاطئة لبلعيد عبد السلام وفريقه من الصناعيين، ومقاربة بومدين الذي وضع فيهم الثقة، ومن بين أخطائهم يمكن ذكر: أ - تطبيق سياسة صناعية غير مناسبة، تقوم على تقليد الغرب الناجم عن غياب ثقافة اقتصادية واجتماعية، ويتجلى ذلك في جلب نظريات ومذاهب لا تتطابق مع الوضعية الجزائرية، ويتجلى أيضا في اللجوء إلى ممارسات صناعية لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف الحقيقية للجزائر، وتهمل الاستخدام الحكيم للثروات البشرية والمادية والمالية المتوفرة. ب - إهمال طاقات بشرية جزائرية هائلة، والأكثر من ذلك احتقار العامل البشري، مما أدى إلى تثبيط روح المبادرة والإبداع والخلق، ممّا أدّى إلى إبعاد وتهميش إطارات نزيهة وكفأة. جـ - الاقتناع بأن نقل التكنولوجيا والتقدم يمكن شراؤهما. د - تقييــــم ناقـــص لظاهـــــرة العولمة الاقتصــــادية ولتأثيـــرها على الاقتصاديات المتخلفة. في هذا الإطار، يمكن القول أن التقييم الخاطئ لظاهرة العولمة(1) وكذلك لسياســـة الرفاهـــية المتبعــــة من طرف بومدين وبلعيد عبد السلام، وحلمهما بجعل الجزائر قوة جهوية، حصر السلطة في نظرة استيلاب لم تسمح للجزائر بامتلاك سياسة اقتصادية أكثر واقعية وأكثر صحيّة، وأبعدها عن مستلزمات بناء المغرب العربي والتكامل الجهوي، وفي الحقيقة فإن بومدين وبلعيد عبد السلام يتحملان مسؤولية كبيرة أمام التاريخ لعرقلة عملية التكامل الاقتصادي للمغرب العربي(2). أمّا وجهة نظر بلعيد عبد السلام تجاه المغرب العربي فهي أسوأ ما يمكن، فبصفته ممثل الجزائر في مؤتمر الوزراء، وهي السلطة العليا للمؤسسات المغاربية، لعب بلعيد عبد السلام دورا معرقلا لهذه المؤسسات بغطرسة وازدراء. والأكثر من هذا، فهو يعتبر البلدان المجاورة خطرا على الجزائر. وقد صرّح أمام اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني في ديسمبر 1979 بمناسبة السياسة الغازية الجديدة للحكومة، أنه يفضل بناء مصنع جديد لتكرير لتمييع الغاز (والذي تكلفته قدرت بـ 6 مليار دولار) على أنبوب الغاز الجزائري-الإيطالي عبر تونس (والذي تكلفته أقل بكثير)، ويبرر هذا الاختيار بإرادة الاستقلالية عن تونس والمغرب (بخصوص أنبوب الغاز الجزائري-الإسباني). نحن نرى أن السياسة تجاه إخواننا وجيراننا يجب أن تكون أكثر ثقة وأكثر جدية وأقل ريبة وفي مصلحة شعوبنا ومصيرنا المشترك. والأمر الخطير في هذه القضية، هو أن النظام الجزائري لم يدر ظهره فحسب لبناء المغرب العربي بين 1965 و1978، لكنه ترك جيلا كاملا يؤمن بهذا، وأجهزة تكره كل تقارب بين البلدان المغاربية. إذن، وفي الإطار العالمي المعاصر، فإن بناء المغرب العربي والتكامل الاقتصادي العربي يشكل موضوعيا السبيل الوحيد لخلاص الجزائر وجيرانها بفضل إقامة علاقات لا رجعة فيها للتكامل والتبعية الاقتصادية البينية والتضامن الجهوي. ومع ذلك فإن رفض سبيل الخلاص هذا، وكذا رفض نظام إعادة توجيه المبادلات الخارجية في إطار التعاون جنوب-جنوب، باتجاه العالم العربي وبلدان آسيا أو إفريقيا بكلفة أقل، أدى بالبلاد إلى المأزق وبزيادة التبعية الخارجية خاصة تجاه فرنسا. وقد علمتنا التجربة أن البلدان التي تملك مجالا اقتصاديا هاما، مثل الصين أو الهند (حتى نتكلم على بلدان العالم الثالث فقط) والتجمعات الجهوية الهامة، هي فقط التي تجمع شروط مقاومة سلبيات العولمة، وتملك أوراقا جديدة لتنمية مستقلة، وفي أيامنا هذه، فإن التعصب السياسي أو الاقتصادي يقود إلى التبعية وإلى الخراب. إن هذه النظرة الضيقة وهذه المقاربة العرجاء لنظام بومدين القائمة على التصنيع الكثيف والسريع والمكثف، ساهمت في زيادة تبعية الجزائر خلال سنوات 1970.
4-2 - زيادة تبعية الجزائر المتعددة: إن تسريع وتيرة التصنيع بواسطة سياسة استثمار مكثفة ومكلفة، تجلت في اللجوء إلى الخارج بصفة عامة وإلى فرنسا بصفة خاصة لاستيراد التكنولوجيا، وجلب القروض الخارجية الموجهة للإنجازات الصناعية المعتبرة، والاستخدام المفرط للمساعدة التقنية وكذلك الاستيراد المتصاعد للمواد والخدمات من مختلف الأشكال. إن سياسة التصنيع السريع هذه، تجلت أيضا في التكاليف الباهظة والتبذير والرشوة سواء على مستوى الاستثمارات أو على مستوى تشغيل الوحدات الصناعية. وقد أدى مجموع هذه العوامل إلى زيادة تبعية الجزائر للخارج، خاصة في المجال التكنولوجي والتجاري والبشري والمالي. التبعية التكنولوجية: تجدر الإشارة أولا إلى أن التقنيات ليست محايدة أبدا، كما أن استيراد واستخدام الجزائر للتقنيات الجد متطورة، تبيّن الاندماج السلبي للصناعة الجزائرية في السوق العالمية، لأنها اكتفت باستيراد منتوجات تكنولوجية واستهلاكها، بدون تشجيع تطوير العبقرية الوطنية ولا إقامة قواعد تصميم ملائمة وإنتاج تكنولوجيات خاصة. ولا يمكن أن نتحدث أبدا عن نقل التكنولوجيا، لأن التركيب المنتج في الصناعة الجزائرية، لا يعتمد سوى على الاستيراد المحض والبسيط للمنتوجات التكنولوجية(1). فلو نأخذ فقط بعين الاعتبار المنتوجات المادية، فإنها تشكل وحدها 66% من حجم الواردات الكلية للجزائر بين 1967 و1979(2). إن عـــقود «المفتــــاح في اليد»، «المنتـــوج الجاهــــز» أو العقــــود المفتوحـــة (Cost plus fees) المبرمة مع الشركات الفرنسية والأمريكية واليابانية وغيرها تجسّد شكلا تجاريا وليس نقلا للتكنولوجيا. إن إدخال التقنيات المتقدمة يستلزم نفقات مرتفعة في مرحلة الاستثمارات، ويؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج في مرحلة تشغيل الوحدات الصناعية (المساعدة التقنية، قطع الغيار، صيانة التجهيزات، إلخ..). وفيما يخص الاستثمار، فإن «التصميم» (engineering) و»التجهيز» يشكلان وحدهما 59% من النفقات بالعملة الصعبة من مجموع النفقات حول التكنولوجيا. وفيما يخص نفقات تشغيل الوحدات الصناعية القائمة (والتي تجدد النفقات بالعملة الصعبة كل سنة)، فإن علاقات التبعية مستديمة أكثر، وتجعل الصناعة الجزائرية عرجاء. ولما عجزت النفقات الضخمة في الاستثمار وتشغيل القطاع الصناعي عن خلق ظروف داخلية لإنتاج طاقات تكنولوجية وطنية، نجم عن ذلك تبعية تكنولوجية خطيرة إلى الخارج. أمّا فيــمـا يخــــص التبـــعيــة لفـــرنســـا في القطـــاع الصنـــاعي، خــــارج قطــاع المحروقــــات، فإننا نسجـــل أن 6 شـــركــات فرنسيــــة، تحصـد لوحــدهـــا 50% من عقود التجهيــز الصنــاعي، و50% مــن مــواد تجهيـــز الهياكـــل: كــريـزو-لــوار، كــرابـــس، تيكنيـب، بـــارلي، ســي.أم.إي.أم، ورشــــات الأطلانتيـك (Creusot-loire; Krebs; Technip; Berliet; CMIM; Chantiers de l>Atlantique). كما أن المقاولة الفرعية تلعب دورا هاما، إذ أنّ 22 شركة فرنسية أخرى تساهم بـ 33% من عقود التجهيز الصناعي، وتشترك في العمل مع عدة شركات فرنسية أخرى، وهذا يعني أن عوامل مضاعفة وتسريع الاستثمارات المنجزة في الجزائر تتم في الخارج، وفي فرنسا بشكل أخص. وفي قطاع المحروقات، تأتي فرنسا في المرتبة الأولى بـ 33% من العقود المبرمة، تليها الولايات المتحدة وبريطانيا. وفيما يخص تحويل المحروقات، تحتل فرنسا مكانة مميّزة فيما يتعلق بتجهيزات النقل البحري. وفيما يخص تمييع الغاز تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى وتليها فرنسا. وفي مجال الأسمدة والمواد البلاستيكية، تعود المرتبة الأولى أيضا إلى فرنسا. لقد ذكرت هذه الأمثلة فقط من أجل توضيح أن تبعية الجزائر لفرنسا بصفة خاصة أصبحت ظاهرة هيكلية. ومن بين المنشآت الصناعية التي أنجزتها الشركات الأجنبية، فإن المصانع والمركبات الصناعية التي أنجزتها الشركات الفرنسية وحدها، هي التي تعرضت للخلل والمشاكل التقنية المختلفة، حيث تأخرت عملية شروعها في الإنتاج وحرمتها من فوائد معتبرة. إن الأمثلة عديدة، لكن نتطرق إلى ثلاثة فقط قصد إعطاء فكرة عن أبعد الأضرار التي ألحقت بالجزائر. مركب الأسمدة الآزوتية بآرزيو: أوكل بلعيد عبد السلام مهمة إنجاز هذا المركب لشركتين فرنسيتين هما تيكنيب وكروزو-لوار (على الرغم من تحفظات مهندسي سوناطراك)(1)، وبمجرد انتهاء الأشغال عام 1969، عرف المركب كل أشكال المشاكل التقنية، حيث لم يكن اختيار الآلات مناسبا في بعض الأحيان، وبعض التجهيزات كانت ضعيفة، وعدد النمط النموذجي (Proto types) مكان مرتفعا(2). إن مجموع هذه العناصر التقنية عطلت بشكل معتبر تشغيل هذا المركب، لأن نسبة تشغيل طاقاته الإنتاجية لم تتجاوز 15% قبل أن تتوقف عن العمل نهائيا عام 1976. وظلت وحدة الأمونياك لهذا المركب مغلقة على الرغم من العقود المكلفة لتجديد المصنع عام 1977، 1978، 1984، 1986. ففي الواقع، فإن عيوب التصميم وأخطاء الإنجاز كانت جسيمة إلى الدرجة التي تجعلنا نتساءل عن اختيار المنجز الذي (لم يكن خبيرا ولا مؤهلا) حسب شهادات إطارات سوناطراك. وإذا تمّ تشغيل مصنع الأمونياك في نوفمبر 1989، أي بعد تأخر دام 20 سنة بعد إنجازه، فقد تمّ ذلك بفضل شركة يوغوسلافية التي شرعت في الأشغال عام 1987. مركب الأسمدة الفوسفاتية بعنابة: لقد تمّ تكليف الشركة الفرنسية (كرابس) لتصميم (engineering) وإقامة واختيار الأجهزة والإشراف على الأشغال والتركيب والشروع في الإنجاز. وتم التوقيع على العقد عام 1975 على أن تنتهي الأشغال في مارس 1979، لكن المركب لم يبدأ في التشغيل إلى غاية 1987، أي بتأخر دام سبع سنوات ونصف. مركب الغاز الطبيعي المميّع (GNL) بسكيكدة: تم التوقيع على عقد إنجاز القاطرات الثلاث الأولى لهذا المركب لتمييع الغاز الطبيعي مع الشركة الفرنسية تيكنيب عام 1968، بطاقة إنتاجية بقيمة 3,7 مليار متر مكعب سنويا. وإذا شرعت القاطرة الأولى في الإنتاج عام 1972 والأخيرة عام 1973، فإن هذا المركب عرف عدة مشاكل تقنية عرقلت اشتغاله التام. إن سوء التجهيزات الحيوية، مثل الآلات الضاغطة (Compresseurs)، وكذلك وجود الزئبق في المحوّلات التبريدية لم تسمح بالتشغيل العادي للمركب لمدة أكثر من سنة. لقد ذكّرت بهذه الأمثلة فقط من أجل تبيان أن تبعية الجزائر التكنولوجية تجاه فرنسا بصفة خاصة، أصبحت ظاهرة هيكلية. إن هذه التبعية التكنولوجية الناجمة عن الاستخدام الكثيف للتقنيات المتقدمة وذات الطابع الرأسمالي Capitalistique وغير المجرّبة (النمط النموذجي) كلفت الجزائر غاليا، كما أعاقت سياسة التشغيل لصالح «استيراد الكفاءات» عبر شركات التصميم (engineering) ومكاتب الدراسات، سواء بالنسبة لإنجاز الاستثمارات أو بالنسبة لاستغلال الوحدات الصناعية التي تم إنجازها. المساعدة التقنية والتبعية البشرية: إن اللجوء المستمر للمساعدة التقنية الأجنبية أوصل الجزائر إلى تراكم التبعية. ومرد ذلك إلى إدخال مكاتب الدراسات وشركات التصميم (engineering) إلى الجزائر، بالنظر إلى علاقاتها المتعددة الأشكال مع أكبر الشركات ومصنعي التجهيزات في بلدانهم الأصلية. إن عملية إسناد مختلف الدراسات في كل مراحلها إلى الأجانب، من التصميم إلى العريف(راجع الأصل) المشروع الأولي إلى الإنجاز، يعني أن وزارة الصناعة والطاقة وشركات الدولة أصبحت خاضعة لهم، ولم تعد لديهم أي استقلالية في قرار حقيقي، إلاّ من ناحية الظاهر. إنّ الدراسات التي ينجزها الأجانب هي التي تنظم وتكرس روابط التبعية في المجال التكنولوجي والتجاري على وجه الخصوص. وأن المساعدة التقنية الأجنبية هي التي تجعل هذه التبعية متواصلة ومستديمة. وسنعرف بسرعة أهمية هذه الظاهرة عندما نحلل تكلفة وأهمية المساعدة التقنية. هناك دراسة أنجزت عام 1979، أوضحت أنه بين عامي 1973 و1978 (مرحلة التصنيــــع الكثيف) تم توقيــع 4912 عقدا للمساعدة التقنية بقيمة إجمالية تقدر بـ 79,4 مليار دينار جزائري أي 18 مليار دولارر(1). إن المقصود بالمساعدة التقنية هنا، الدراسات والإشراف على الإنجاز واليد العاملة الأجنبية المستخدمة في استغلال الوحدات الصناعية القائمة. ويوضح الجدول التالي تكلفة هذه المساعدة التقنية وكذا توزيعها الجغرافي.
الجدول 5: التكلفة والتوزيع الجغرافي للمساعدة التقنية (1973-1978) ونخلص من خلال هذا الجدول إلى مايلي: 1 - تحتل فرنسا المرتبة الأولى ضمن المتعاملين مع الجزائر في مجال المساعدة التقنية، سواء فيما يخص عدد العقود أي 2170 عقدا من مجموع 4912، أو فيما يخص التكلفة المقدرة بـ 16 مليار دينار، أي 4 ملايير دولار والتي تمثل 20% من التكلفة الإجمالية للمساعدة التقنية. وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية التي استفادت من 18% من قيمة مجموع العقود، 2 - عندما نحلل حالة البلدين اللذين يحتلان رأس القائمة، نجد فرنسا تسيطر بصفة واضحة على عدد العقود الموقعة، أي 2170 عقدا، والتي تمثل 44% من مجموع العقود. وهذا يعني أننا نلجأ إلى فرنسا أكثر، خاصة في مجال العقود «الصغيرة». وهذا يعكس الحالة النفسية لأصحاب القرار والعلاقات التي يقيمها البيروقراطيون الجزائريون مع مكاتب الدراسات الفرنسية. وبالمـــقابــل، فــإن الولايــات المتـحـــــدة بـ 385 عقــــدا، أي أقـــــل مـــــن 8% من العقــــود، تحصــــد 14 مليار ديـــنار، أي حـــوالي 18% من القيمة الإجمالية. إن متوســط تكلفــــة عقد المساعدة التقنيــة مع الشركـات الأمريكية مرتفعة أكثر من تلك المبرمـــة بين الشركـــات الصناعيــة الوطنية والشـــركات الفرنسية. وبعبارة أخرى، فإن التكلفة الموحدة للعقود مع الولايات المتحدة الأمريكية مرتفعة أكثر بكثير. إن أهمية العقود مع الشركات الأمريكية، تعكس بصفة خاصة تراجع وزارة الصناعة والطاقة في تلك الحقبة التي قررت التوجه صراحة نحو الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع سنوات 1970، مثلما أوضحنا سابقا. لكن ما يزيد أكثر في تبعية الجزائر في هذا المجال هو التجديد المستمر للعقود، سواء عن طريق التمديد الضمني، أو عن طريق ملحق عقود متتالية. وهذا يوضح الأمر الواقع الذي يمارسه البيروقراطيون في مختلف الأجهزة.
التبعية التجارية: تعتبر التبعية التجارية واحدة من النتائج المباشرة للتبعية التكنولوجية. لأن تصاعد استيراد التكنولوجيا يؤدي تلقائيا إلى زيادة استيراد مواد التجهيز، والمنتوجات النصف مصنعة وحتى المواد الأولية والخدمات المختلفة لتشغيل الوحدات الصناعية القائمة.
الجدول 6: تطور الواردات الصناعية (بملايين الدينارات الجزائرية): المصدر: A. Brahimi; ibid, p. 146. من جهة أخرى أصبح تمديد مدة إنجاز الاستثمارات الصناعية مزمنا، وكذلك الاستخدام السيء لطاقات الإنتاج بسبب سوء تصميم الدراسات التقنية، وقد أدى هذا إلى زيادة استيراد المواد الصناعية والاستهلاكية، والتي كان يجب أن تنتجها المصانع التي تم إنجازها. كما أن تطبيق سياسة التصنيع، خاصة في جانبها التكنولوجي وكذلك في اختيار الشركات الأجنبية وطريقة تدخلها، كان لها تأثير مباشر على التجارة الخارجية وعلى التوزيع الجغرافي للمبادلات. وفيما يخص تطور الواردات المرتبطة بالصناعة، فإن الجدول رقم 6، يقدم لنا فكرة عن تزايدها السريع بين 1967 و1978، ونستخلص من خلال هذا الجدول ثلاث ملاحظات: 1 - بدأ استيراد مواد التجهيز في التصاعد بصفة ذات دلالة منذ عام 1970. لكن زيادته تسارعت منذ عام 1973، وقد بلغت نسبة الزيادة في واردات مواد التجهيز 64% في المعدل السنوي. أمّا بالنسبة لمجموع هذه الواردات خلال فترة 1967-1978 فقد تضاعفت 21 مرة. 2 - عرفت واردات المواد الأولية، المنتوجات النصف مصنّعة وكذلك المواد الضرورية لتشغيل الوحدات الصناعية تصاعدا سريعا، هذه الواردات ضربت في عشرة بين عامي 1967 و1978. 3 - إن النمو السريع لواردات المنتوجات الضرورية لتشغيل الأجهزة الصناعية القائمة، يوضح أن سياسة التصنيع لم تهتم بتحسين اندماج الاقتصاد الوطني -بل على العكس من ذلك، بالإدماج المتزايد للقطاع الصناعي الجزائري في السوق الدولية- إلا بعد انخفاض العائدات الخارجية للجزائر بعد الانخفاض الفظيع والمزمن في أسعار البترول منذ 1986، حيث تعرضت مصانع الدولة لضربة قاسية، إذ أن معدل نسبة استخدام طاقتها الإنتاجية، لم تتعد 20% خلال حقبة 1990. وبصفة عامة، فإن الزيادة السريعة في الواردات مقارنة بالصادرات، جعلت الميزان التجاري خلال الفترة المحددة في عجز هيكلي، كما يتضح ذلك من خلال الجدول التالي: الجدول 7: تطور ميزان المواد والخدمات (1967-1978) (بملايين الدينار الجزائري) المصدر: A. Brahimi, ibid. p. 148. من خلال هذا الجدول نستشف الملاحظات التالية: - إن اللجوء المستمر إلى الخارج، زاد في عجز ميزان المواد والخدمات، حيث انتقل من 697,5 مليون دينار في عام 1967 إلى 15496,3 مليون دينار جزائري في عام 1978، وقد تجاوز مجموع العجز لهذا الميزان 53 مليار دينار، أي أكثر من 13 مليار دولار خلال تلك الفترة. - سجل ميزان الخدمات عجزا مزمنا أكثر خطورة من عجز الميزان التجاري. فقد انتقل عجز ميزان الخدمات من 1232,4 مليون دينار في عام 1967 إلى 8691,8 مليون دينارفي عام 1978، أي تضاعفت 7 مرات خلال 12 سنة. وبالأحرى، فإن مجموع عجز ميزان الخدمات قدر بـ 33783,3 مليون دينار جزائري، أي حوالي 8,5 مليار دولار بين 1967 و1978، ويمثل بالتقريب ضعف مجموع العجز التجاري. - بلغت حصة الواردات 48,4% من الإنتاج الداخلي الخام في عام 1978، وهذا يعني أنه من 100 دولار المستثمرة في القطاع الصناعي 48,4 دولار خصصت للواردات. وهذا يوضح حجم التسرب نحو الخارج لعوامل مضاعفة وتسريع الاستثمارات الصناعية. - إن زيادة العجز في ميزان المواد والخدمات بسبب الزيادة السريعة لواردات مواد التجهيز، والمنتوجات النصف مصنعة والمواد الأولية أدت إلى الطلب المتزايد للقروض الخارجية على مرّ السنين. كما أن سياسة التصنيع الكثيف انعكس عنها تفاقم المديونية الخارجية للجزائر خلال هذه الفترة. وبعبارة أخرى، فإن التبعية التكنولوجية بسبب الاستثمارات الصناعية الكثيفة، والتبعية التكنولوجية بفعل التصاعد المرتفع في الواردات أدت إلى التبعية المالية.
التبعية المالية: مبدئيا، فإن استراتيجية التنمية المرسومة عام 1966 تتوقع أن عائدات صادرات المحروقات هي التي تموّل العملية التنموية. لكن خلال فترة 1967-1978، أدّت الحاجـــة المتزايـــدة للواردات بسبب مستلزمات التصنيع وزيادة الطلب بسبب ارتفاع عدد السكان والمداخيل بالسلطة إلى طلب القروض الخارجية لمواجهة النفقات الناتجة عن نموذج التنمية المختار الذي اختاره وقرره المتعاونون الفرنسيون. لقد انتقلت المديونية الخارجية الشاملة (ديون تمت استدانتها لكنها لم تستخدم كلية) من 6 مليار دولار عام 1974 إلى أكثر من 11 مليار دولار عام 1976 ثم إلى 20 مليار دولار عام 1978 لتتجاوز 26 مليار دولار عام 1979. إن القروض الموظفة وإن كانت أقل من المبالغ المذكورة سابقا، إلاّ أنها ظلت مرتفعة. وبالفعل فإن الديون الموظفة بلغت 3,3 مليار دولار عام 1974 أي 29% من الناتج الداخلي الخام، و 5,8 مليار دولار عام 1976 أي 37% من الناتج الداخلي الخام، و 16,1 مليار دولار عام 1979 أي 56% من الناتج الداخلي الخام، وقدرت خدمات الديون بـ 36% من مداخيل الصادرات. لقد انتقلت خدمات الديون (التسديد الرئيسي والفوائد) من 607 مليون دولار عام 1975 إلى 3,5 مليار دولار عام 1979. وتضاعفت المديونية الموظفة 7 مرات خلال نفس الفترة. وتفاقمت المديونية الخارجية للجزائر باللجوء المستمر إلى الخارج بفعل سياسة التصنيع، وأدت هذه المديونية بالبلاد إلى عملية تراكمية والتي ستترك أثرا بالغا على مستقبل البلاد كما سنرى ذلك لاحقا. إن نظرة سريعة على التبعية المتعددة الأشكال، تبيّن محدودية التنمية المتبعة والتي تتسم بأزمة تسيير الدولة للاقتصاد. 4 - 3 - أزمة تسيير الدولة للاقتصاد: إن أزمة تسيير الدولة للاقتصاد يمكن أن تكون مرعبة في مجموع قطاعات النشاط، وأن دراسة مسألة واسعة يمكن أن تكون طويلة ومملة. لكن التذكير بحقائق بارزة لأزمة تسيير الدولة للمؤسسات الصناعية، التي استحوذت خلال فترة 1970 على ما يقارب ثلثي (2/3) مجموع استثمارات البلد، تمكننا من معرفة حجم الخسائر والأضرار التي أصابت الاقتصاد الجزائري، واستخلاص نتائج يمكن تعميمها على كل قطاعات النشاط. أزمة تسيير الدولة للمؤسسات الصناعية: يمكن تحليل تسيير الشركات العمومية على أربع مستويات: - تسيير الاستثمارات. - نظام التمويل. - الخصائص الرئيسية لسوء التسيير. - النتائج. تسيير الاستثمارات: إن الانشغال الرئيسي لوزارة الصناعة والطاقة والشركات الصناعية التابعة للدولة خلال فترة 1970، هو الاستثمار أكثر فأكثر، بدون الاهتمام بالتنظيم العلمي للعمل والتسيير العقلاني الفعال للثروات البشرية والمالية والمادية الوطنية، قصد تحسين نتائج الاقتصاد، والحصول على نتائج مالية إيجابية، وتوفير أحسن الظروف الموضوعية لتنمية غير تابعة للخارج. وقد اعتادت السلطات الجزائرية أن تعلن خلال نفس الفترة وبكل سرور، أن الاستثمارات تشكل 40% إلى 50% من الناتج الداخلي الخام، وهو واحد من أعلى النسب في العالم، وأن الاستثمارات المخصصة للقطاع الصناعي تتراوح بين 53% و60% من مجموع الاستثمارات. غير أن مالم تقله السلطات الجزائرية، هو أن التسيير البيروقراطي للمشاريع، ونقص التحكم في تسيير الاستثمارات وكذا قلة التنسيق والبرمجة، أحدثت تأخرا معتبرا في إنجاز المشاريع الصناعية وأدّى إلى إعادة التقييم المستمر للمشاريع(1) وارتفاع التكاليف وتبذير أموال طائلة. والأكثـــر من هـــذا، أدى اللجــــوء المنتظم إلى الشركات الأجنبية وإلى الأشكال التعاقــدية مثـــل (المفتـــاح في اليــد) (clé en main) و(المنتــوج الجاهـــز) (produit en main) و(cost plus fees) إلى إعاقة الاقتصاد الجزائري وثبط معنويات إطارات الشركات الصناعية العمومية. نظام التمويل: يخص نظام تمويل شركات الدولة الاستثمارات والاستغلال. إن الشركات العمومية تمول استثماراتها في شكل قروض يمنحها لها البنك الجزائري للتنمية (BAD) منذ أول مخطط رباعي 1970-1973. وهذا يعني أن كل نشاطات الشركات الصناعية يتم تمويلها بواسطة القروض فقط، وأن الشركة تشتغل في حالة ديون كاملة ودائمة. ويضاف إلى هذه الصعوبة الرئيسية، التباطؤ البيروقراطي في منح القروض وعدم ملاءمة التمويل لاحتياجات الشركة. ويحدث أحيانا، أن الشركة تشرع في تسديد الدفعات الأولى من المديونية قبل نهاية المشروع والشروع في الإنتاج، الأمر الذي يحتم على الشركة اللجوء إلى السحب على المكشوف ممّا يزيد في الخلل المالي للشركة. إن غياب رأس المال الخاص واللجوء إلى الاستدانة للتمويل وقلة رأس مال التشغيل، ضاعف حاجات خزينة شركات الدولة. وعند حد معيّن، يقوم البنك بتجميد حساباتها إلاّ لتسديد الرواتب والالتزامات الخارجية. إن تجميد التحويلات عملية شاذة، لأنها لا تحل أي مشكل، بل إنها تتسبب في مشاكل أخرى، والتي تربك أكثر فأكثر تشغيل الشركة ويزيد في عدم التوازن المالي لها. الخصائص الرئيسية لسوء التسيير: تعتبر مسألة سوء تسيير الشركات الصناعية العمومية ظاهرة جدّ معقدة، ويمكن القول أن لها عاملين: - سوء التنظيم. - تكلفة التصنيع الباهضة، التبذير والرشوة. 1 - سوء التنظيم: نادرا ما يهتم فريق الصناعيين بنتائج وفعالية شركات الدولة، وبضرورة وأهمية مساهمتها في تنمية الاقتصاد الجزائري، لكنهم يبحثون مقابل ذلك، بجعل القطاع الصناعي رافدا اقتصاديا هاما، عن التأثير في الساحة السياسية عبر استثمارات متعددة وإرادات كثيفة للمواد والخدمات. إن الشركات العمومية ليست مستقلة. لقد تم قهرها بمختلف أشكال المراقبة الإدارية لوزارة المالية والتخطيط والبنوك ووزارة الصناعة والطاقة بشكل خاص. إن الرقابة المفروضة على الشركات العمومية من قبل وزارة الصناعة والمناجم متعددة الأشكال. ويتعلق الأمر أساسا بتعيين المدراء العامين، ورؤساء مجلس توجيه الشركات الوطنية، والإطارات الموظفة في المراكز الحساسة (مثل مدير المالية، المدير التجاري، ومدير الموظفين) وكذا إنهاء مهامهم وهذا يخص أيضا الهيكل التنظيمي وكل برنامج استثماري وكل مشروع وتحديد أمكنة المصانع، وأشكال التعاقد لإنجاز المشاريع واختيار الممونين، دراسة تقارير النشاط والحصيلة وكذا حسابات الاستغلال لشركات الدولة..إلخ. ولم تبدأ شركات الدولة في إعادة تنظيم نفسها حسب فروع نشاطها الصناعي إلاّ سنوات 1970. حينذاك، تجلى نمط التنظيم الذي اختاره الوزير، والذي يتميّز بشدة مركزية الهياكل، في ثقل تشغيل المؤسسات، الأمر الذي أدى إلى تقليص فعاليتها، إذا كانت هذه الفعالية موجودة. لقد كانت شركات الدولة ومنذ البداية مهيمنة على السوق الداخلية، فهي تشتغل في ظروف بدون منافسة، وبدون شفافية، كما تتمتع باحتكار التجارة الخارجية. كما أن المديريات العامة لشركات الدولة وكذا مقراتهاتعرف تضخما من حيث الإطارات والموظفين المؤهلين والمحبوسين في مهمات إدارية على حساب الوحدات الإنتاجية التي هي في أمس الحاجة إليهم. إن ممارسات شركات الدولة هذه بخصوص الشغل والأجور لا تستجيب لأي مستلزم من المستلزمات الاقتصادية. ففي الحقيقة، يعد استخدام عدد زائد من الموظفين ممارسة دائمة إلى درجة أصبح فيها الموظفون غير المنتجين يمثلون نسبة 52% من المجموع العام للموظفين، خلال سنوات 1970 وفي مطلع سنوات 1980. إن النمط «النخبوي « للتسيير (البعيد عن القواعد العالمية المعترف بها في التسيير)، ومنطق الشركة الكبرى والمركبات الكبرى(1) والاستخدام المفرط للتكنولوجيا الجد متطورة (بعض الأنماط النموذجية في بعض الحالات)، اللجوء المستمر للشركات الأجنبية (عقود المفتاح في اليد، المنتوج الجاهز، العقد المفتوح cost plus fees) (ومركزية سلطة القرار في دوائر جدّ ضيقة، كلها أدّت إلى تعزيز الامتيازات غير المشروعة عادة لصالح العصب الصناعيين. التكاليف الباهضة، التبذير والرشوة: إن التكاليف الباهضة للتصنيع لها أسباب داخلية وأخرى خارجية(1)، ولا نتطرق هنا للعوامل الخارجية لارتفاع التكاليف، لأن لها علاقة بالمحيط الدولي وبتدخل الشركات الأجنبية، وهذا ليس خاصا بالجزائر، بل يمكن أن ينطبق على بلدان العالم الثالث، حيث تتدخل الشركات العابرة للجنسية. بينما تعود أسباب ارتفاع التكاليف فيما يخص العوامل الداخلية، إلى نمط ووتيرة التصنيع الذي اختارته السلطة، وإلى تصرفات البيروقراطيين «الصناعيين». إن تقييم التكاليف يتم على أساس مقارنة أسعار مختلف النشاطات الصناعية والمتشابهة في كل من الجزائر وأوروبا ومن حيث يتم استيراد التجهيزات والمواد الوسيطية. ومن بين التكاليف الباهضة في الصناعة، نذكر خاصة: - تقدر تكاليف البناء والهندسة المدنية بـ 20% من مجموع الاستثمار لمشروع محدد. - الفوترة المرتفعة للتجهيزات التي تبلغ حتى 40% (حالة مركب المحركات - الجرارات بقسنطينة). - التكاليف الناتجة عن النسبة المرتفعة للتكامل الداخلي للمنشآت الصناعية، إذ أن إنشاء بعض النشاطات الفرعية داخل المركبات الصناعية، تمخض عن سوء استخدام بعض الورشات بسبب التجهيز الفائق. هذه التكاليف تقدر بـ 15% من مجموع الاستثمارات (حالة الصناعات الميكانيكية). - إن ارتفاع التكاليف بسبب التأخر في إنجاز الاستثمارات الصناعية يعود إلى عاملين: فمن جهة أدى تأخر إنجاز المشاريع الصناعية إلى إعادة تقييم الكلفة المبدئية المتوقعة تعاقديا. وتختلف الزيادات المدفوعة من مشروع لآخر. إن هذا النوع من التكاليف يمكن أن يبلغ 100% من الكلفة المبدئية المتوقعة، مثلما حدث مع مركب المواد البلاستيكية بسكيكدة. ومن جهة أخرى ترجع التكاليف الباهضة إلى التأخر في تشغيل الوحدات الصناعية، سواء أكان ذلك بسبب تمديد مدة الإنجاز أو إلى أخطاء في تصميم المشاريع، أو إلى عدم تزامن مختلف أجزاء المركب المعين، وقد نجم عن ذلك خسائر وربح محتمل، والمقدر بـ 30% من الاستثمارات لكل سنة من تأخر التشغيل. وكما أن التأخر في إنجاز المشاريع الصناعية يتراوح بين 3 و7 سنوات (وحتى 20 سنة مثلما حدث مع مركب الأسمدة الآزوتية بآرزيو الذي أنجزته شركتان فرنسيتان: (تيكنيب وكروزو-لونوار)، إن التكاليف والخسائر الناجمة عن هذه التأخرات معتبرة جدا. كما أن تكاليف التموين الباهضة تتغيّر تبعا لحجم الواردات، وتتراوح واردات المنتوجات الوسيطية من قبل شركات الدولة في قطاع الصناعات الميكانيكية والحديدية والكهربائية بين 44% و 73,5% من مجموع شراءاتها، وتمثل تكلفة زائدة بقيمة 53%. وبعبارة أخرى، تجد الجزائر نفسها بفعل الفاتورات المتعددة تدفع 53% أكثر من الأثمان المطبقة في السوق الأوروبية، كلما استوردت منتوجات وسيطية ضرورية لتشغيل التجهيزات الصناعية. كل هذه العناصر المتعلقة ببهاضة التكاليف، تمثل خسائر هامة للاقتصاد الجزائري، وتؤثر على ثمن العائد للمنتوج الصناعي الجزائري. وتشكل عائقا حقيقيا لفعالية المؤسسة العمومية وكذا للسلامة الاقتصادية والمالية للجزائر. وتتضمن هذه التكاليف الباهضة أيضا، الرشوة والتبذير. ل قد قدرت التكاليف الباهضة الناجمة عن نفقات الاستثمار الصناعي بـ 18 مليار دولار(1)، والتكاليف المرتبطة بتموين أجهزة الإنتاج الصناعي بـ 1,5 مليار دولار خلال فترة 1967 و1978. إن 19,5 مليار دولار من التكاليف الإضافية للتصنيع، تعني أن الجزائر تخسر في مجال التصنيع ما معدله 1,65 مليار دولار سنويا، وهي ثروة حولت للشركات الأجنبية بدون مقابل حقيقي، وإنه لمن الصعوبة بمكان التمييز بين الرشوة وهذه التكاليف، لأنهما مرتبطان فيما بينهما: - الرشـوة: إن تلك التكاليف تشكل نفقات تمكن الشركات الأجنبية من تحقيق ربح إضافي لتحمي نفسها من كل المخاطر وتمنح مقابل ذلك من تحت الطاولة للمتعاملين الجزائريين. لقد ظل الحديث عن مسألة الرشوة محرما في الجزائر إلى غاية 1990، وفي الحقيقة لقد أثرت أنا شخصيا هذه القضية عموميا وقدرتها بـ 26 مليار دولار خلال 20 سنة الأخيرة(1) في كل القطاعات مجتمعة، وتحركت بذلك كل وسائل الإعلام العمومية و»الخاصة» بإيعاز من الحكومة وتهجمت -ليس على الرشوة والمرتشين- بل على من يندد بها. وحتى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يومذاك، وكذا الأمين العام لجبهة التحرير في تلك الفترة، أنكرا وجود الرشوة وتهجما على من ندّد بها. في هذا الإطار، أكدت عموميا أن «تصريحي يسير تجاه أمنيات القاعدة النضالية، التي لم تتوقف عن التنديد بظاهرة الرشوة» وأنني بادرت عندما كنت وزيرًا أول، بإجراءات وآليات لمراقبة العمليات التجارية الكبرى مع الخارج، وأعلنت أنه إذا كان صحيحا أن تلك الإجراءات والآليات لم تكن ذات فعالية مطلقة، فإنها كانت مقنعة وحققت أرباحا معتبرة للجزائر في بعض الأحيان. ونستطيع أن نجد بعض الحالات خلال عملية الرقابة هذه، والتي سمحت بتقليص أسعار الخدمات والتجهيزات الأجنبية(2) بشكل حساس. هذه «الأرباح» قدرتها بحوالي 5 ملايير دولار في فترة 1984-1988. غير أن هذه التوضيحات لم تخفف من شدة الهجوم المركز عليّ لمدة سنتين من طرف الصحافة ومختلف رؤساء الحكومات بين 1990 و1992، خاصة: مولود حمروش أحمد غزالي وبلعيد عبد السلام. وكان يجب الانتظار إلى غاية شهر ماي 1999، لنرى جريدة الوطن، تقدر حجم «الأموال المشكوك فيها» والتي يمتلكها الجزائريون في البنوك الأجنبية بـ 30 إلى 35 مليار دولار (1). لكن في حملته الانتخابية للاستفتاء حول الوئام المدني في سبتمبر 1999، أكّد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عموميا على مسألة الرشوة وألحّ على ضرورة تحلي الإدارة بالأخلاق الحميدة، وعلى ضرورة تحكم هذه الأخلاق في الاقتصاد الجزائري. وفي شهر أكتوبر 1999، خلال خطابه في افتتاح معرض الجزائر الدولي، ذهب الرئيس بوتفليقة بعيدا، عندما سجل أن الرشوة أضرّت بالجزائر أكثثر مما أضرّ بها الإرهاب. لكن لم نلاحظ أي إجراء ملموس لمحاربة هذه الظاهرة. والأكثر من هذا أن شيوع ظاهرة الرشوة خلال العشرة أو الخمسة عشرة سنة الأخيرة تسببت في خسائر فادحة للمجتمع. وإلى جانب «الرشوة الكبيرة» التي تنجم عن العقود الكبرى للاستيراد والمحصورة في دوائر ضيقة، توجد «الرشوة الصغرى» الأكثر شيوعا والأكثر وضوحا لأنها تمارس على حساب المواطن. لقد أصبحت الرشوة في الجزائر ظاهرة اجتماعية متكررة مرتبطة بالعمل الإداري للمؤسسات والأجهزة العمومية(2). لقد آن الأوان للانكباب بجد على معالجة هذه المسألة، وإيجاد الحلول المناسبة لاستئصال هذا السرطان الذي يعاني منه الشعب الجزائري. وقد آن الأوان أيضا لإقامة الشفافية والتسيير العقلاني للثروات البشرية والمالية للبلاد، وإزاحة غموض النظام، وجشع الأقلية، وسوء التسيير الذي خرّب البلاد، حيث ظهرت النتائج الأولى لذلك عام 1980، والتي بيّنت حجم الخسائر التي ألحقت بالقطاع الصناعي خاصة والاقتصاد الجزائري بصفة عامة.
النتـائـج: اتسم تسيير الدولة للشركات العمومية بمركزية مفرطة، واقتراض ثروات مالية داخلية وخارجية هامة جدا، وبأشكال تنظيمية غير ملائمة، وإجراءات إدارية بطيئة، ورقابة تافهة، وعيوب متعددة الأشكال، والتي أدّت مجتمعة إلى نتائج رديئة. وفي واقع الحال، أدى تداخل دور الدولة والمؤسسة العمومية، إلى جعل هذه الأخيرة تقوم بأعمال لا علاقة لها باهتماماتها الأساسية، وإبعادها عن التسيير الأمثل للثروات البشرية والمالية، وزيادة الإنتاج وخلق الفائض الاقتصادي لتحقيق التنمية والمساهمة في تمويل الاقتصاد. كما كان عدم التناسب في برامج الاستثمارات، وظروف إنجازها وتمويلها مصدرا لخلل عميق في هياكل معظم الشركات العمومية. من جهة أخرى وصلت عدة شركات عمومية إلى حد العجز، وهددت بالشلل والاختناق عام 1979. إن حجم عجزها والسحب على المكشوف لدى البنوك بلغ حدا لا يطاق. كما أن التكاليف الباهضة المرتبطة بالاستثمارات والاستغلال هي التي ساهمت في ارتفاع الأعباء المالية للشركات العمومية، ولمواجهة هذه الوضعية، وفي غياب رؤوس الأموال الخاصة، استنجدت الشركات العمومية بالقروض البنكية القصيرة المدى. وقد ازداد هذا العجز حدة بسبب غياب الصرامة في تسيير المخزون وسوء تسيير القروض بين المؤسسات. وعلى سبيل المثال، نذكر حالة الشركات العمومية الخمسة التالية: الشركة الوطنية للحديد والصلب (SNS)، (SNIC)، (SONIC)، (SNMC) وسونلغاز. ويوضح الجدول التالي النتائج:
الجدول 8: تطور بعض المعالم المالية بملايين الدينار الجزائري: المصدر: A. Brahimi, «Strategies de developpement pour l>Algérie», op cit. p. 164. إن المخزون بالنسبة لرقم الأعمال للمؤسسات الخمس، بلغ 60% عام 1978، وأن الخوف من قطع التموين أدى بالشركات إلى استيراد المواد الأولية والمنتوجات النصف جاهزة بكثافة طيلة عدة أشهر. وتجلى ذلك في تجميد المخزون بدون مبرر، وبالتالي تكاليف إضافية. كما أن مستوى القروض جدّ مرتفع ويتراوح بين 106% عام 1979 و266% في عام 1977. وهذا يوضح قلة الديناميكية لدى الشركات العمومية لتغطية القروض. وبلغت مديونية الشركات الخمس مستوى عاليًا جدا، وهو بقدر بسبع مرات أكثر من رأس مالها في عام 1977 و1978. ووصل مجموع المديونية (الداخلية والخارجية، وهذا يعني بالدينار وبالعملة الصعبة) للشركات الخمس بتاريخ 31 ديسمبر 1978، حوالي 179 مليار دينار جزائري، أي في حدود 40 مليار دولار، وهذا يمثل مرتين قيمة الإنتاج الخام، الذي كان يقدر بـ 86,8 مليار دينار عام 1978. وخلاصة القول، إن النتائج السلبية الناجمة عن تسيير الدولة للشركات العمومية واضحة من خلال الخلل المالي الخطير لهذه الشركات، وبالنظر إلى مديونيتها وإلى سوء استغلال طاقاتها الإنتاجية القائمة، وإلى قلة مردودية العمل (77% أقل من تلك المسجلة في فرنسا)، وإلى المستوى الجد مرتفع للاستثمار الصناعي بالنسبة للمناصب المستحدثة، والذي جعل الأكثر تكلفة في العالم بخمس مرات من المقاييس الدولية. ومن جهة أخرى، تم تكليف القطاع الصناعي مبدئيا، بالمساهمة في تطوير قطاعات النشاط الأخرى، لكنه عجز حتى عن تحقيق الفائدة لنفسه، بل أصبح عبئا ماليا ثقيلا على الدولة. وساهم من جهته في إفلاس القطاع الصناعي العمومي وإهمال القطاع الفلاحي وتهميشه، وكذا الصعوبات المختلفة التي خلقتها التكنوقراطية لتثبيط وعرقلة تشغيل وتوسّع نشاط القطاع الوطني الخاص في تحطيم الاقتصاد الجزائري وجعله رهين الواردات. كما أن متاعب الاقتصاد الجزائري وتدهور الوضعية الاقتصادية والاجتماعية خلال الحقب الأخيرة الثلاث، شكلت العوامل الرئيسية التي ساهمت في تفاقم المأساة الجزائرية.
|