اغتيال بوضياف
بعد الانقلاب العسكري في
الجزائر يوم 11 يناير (كانون الثاني) 1992 أراد جنرالات الجيش القمعيون
إيجاد وسيلة لتهدئة المواطنين الساخطين إثر إيقاف المسار الانتخابي من
جهة وإبعاد الجيش من واجهة قيادة الدولة من جهة اخرى. كانوا يدركون أن
في مصلحتهم التحرك وراء حكومة يزعم أنها مدنية. تفاديا لانتقادات الدول
الغربية التي رغم ارتياحها لعدم وصول الجبهة الاسلامية للإنقاذ إلى الحكم-
لا تستطيع دعم دكتاتورية عسكرية مباشرة. ولم تكن هذه المعايير المحددة متوفرة لدى الكثيرين ممن يمكن ترشيحهم لمنصب رئيس دولة, ويكاد يكون من باب الصدفة ان وقع اسم محمد بوضياف على لسان الجنرال نزار, فبوضياف رجل ذو وزن ثقيل وتتوفر فيه كل الشروط المطلوبة. لكن المشكل الكبير الذي كان مطروحا, هو هل سيقبل السيد بوضياف بمنصب محرج وقد ابتعد عن السياسة منذ زمن بعيد ليتفرغ كلية لاعماله الخاصة واسرته حينئذ, قرر الجنرالات ارسال (صديق قديم) لابلاغه بالاقتراح.. وكان ذلك الصديق هو علي هارون, وكانت مهمة هذا الأخير حساسة جدا. حيث حبس جميع الجنرالات الذين كانوا في الامانة العامة لوزارة الدفاع الوطني أنفاسهم في انتظار الجواب بالقبول أو الرفض من طرف بوضياف. وفي المغرب, التقى الصديقان
في بيت السي محمد (بوضياف), حيث أطلع علي هارون بوضياف على هدف زيارته
بعاطفة جياشة. فوعده بوضياف الذي تأثر بالعرض من دون ان يتفاجأ به بالتفكير
في الموضوع وابلاغهم بما يقرره في اقرب الآجال. وبعد مشاورات مع اسرته
وصديق آخر له يعمل طبيبا, وافق بوضياف على الطلب ليس لعظمة المنصب, بل
لأن الساعة تنذر بالخطر في الجزائر والوضع الذي اطلعه عليه علي هارون
ينذر بالكارثة. وابلغ علي هارون جنرالات الجزائر (البينوشيين) الذين ظنوا انهم وجدوا حلا للازمة الدستورية التي تهدد مصالحهم الشخصية فاعلنوا الخبر للعامة وبدأوا في التحضيرات استعدادا لاستقبال منقذ الجزائر. وتم اطلاع حكومة باريس بهذا الاختيار في نفس الليلة التي قرر فيها النظام الفرنسي الاتصال ببوضياف الذي كان معروفا لدى الفرنسيين لشغله منصب ضابط مساعد في الجيش الفرنسي سابقا وحوزه على ميدالية عسكرية وصليب الحرب الفرنسية. اذن ليس هناك من اختيار من شأنه ان يرضي اصدقاءهم فيما وراء البحر اكثر من هذا الاختيار؟ وبالتالي تكون الثغرة قد سُدت واعيدت الشرعية للقيادة السياسية في البلد وكان نزار ساهم شخصيا في تزكية بوضياف رئيسا على رأس المؤسسة العسكري غير ان بعض الضباط السامين في الجيش الذين شجبوا هذا الخيار اعتبروا هذه الخطوة اهانة لهم. فلم ينسوا ان هذه الشخصية الثورية (بوضياف) انحازت لجانب الملك الحسن الثاني ايام المسيرة الخضراء التي ادت الى نشوب حرب الاخوة راح ضحيتها مئات الجنود الجزائريين دون ذكر الذين اعتبروا في عداد المفقودين والمعتقلين. لم يشك بوضياف (73 سنة)
انه عائد الى الجزائر لشغل اعلى المناصب القيادية والقاضي الاول في البلاد
فيها وانه سيعامل معاملة الملوك. وكونه قضى مدة طويلة بعيدا عن الجزائر
شكل له عائقا الا ان ذلك يخدم نسور وزارة الدفاع الوطني خدمة كبيرة. ومع مرور الوقت شرع بوضياف
في التحرر وحاول جلب المقربين منه حوله وتنصيب اصدقائه الاوفياء على
كل المستويات. لكنه لم يجد صدى كبيرا لدى ضباط الجيش الذين الغوا مراسيم
تنصيب العديد من الاشخاص الذين ارادهم بوضياف حوله فيما كثرت الشجارات
الشفوية مع مسؤولين سامين في وزارة الدفاع لان هؤلاء كانوا يصدرون اوامر
مناقضة لاوامره. كما تقلص نطاق حرية عمله تدريجيا بتدخل من الجيش. وكانت
كل اتصالات بوضياف مسجلة ومراقبة على الدوام وعن قرب واذا دعت "الضرورة"
للتخلص من الشخصيات التي كان يتصل بها بوضياف, فإن قناصي الجنرال توفيق
رهن الاستعداد للقيام بالمهمة. وما زاد الطين بلة قرار بوضياف ورأيه المتصلب لاعادة محاكمة الجنرال بلوصيف (أمين عام وزارة الدفاع في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد), وبهذا يكون قد رفع تحديا جريئا في وجه بارونات الجزائر. عزم بوضياف على المضي في ذلك بعد مشاورات كان أجراها مع قاصدي مرباح (مسؤول المخابرات العسكرية سابقا). وتجدر الاشارة الى أن هذين الرجلين كانا يعرفان بعضهما البعض جيدا ومن نفس التيار السياسي. ولهذا السبب, تعهد مربا ح بمساندة هذا الرجل الذي كان يكن له الاحترام نفسه الذي كان يكنه للسيد عبد الحفيظ بوصوف. وشكلت مساندة قاصدي مرباح نصرا كبيرا لبوضياف خاصة وأن هذا الأخير يعد من دون شك من القلائل المطلعين على الحقيقة الجزائرية. كما يعرف من هم الأعداء اللدودين في السلطة ولمحاربتهم كان بحاجة الى رئيس مثل بوضياف لدعمه. وكانت اتصالات مرباح واسعة ومهمة بما فيها توفيق الذي كان يشغل رتبة ملازم ثان ضمن الجيش (SA) عندما كان مرباح يشغل منصب قائد الأمن العسكري (SM). فقد استطاع أن يحصل على وعد بالمساعدة تمثل في ضمان نزاهة ضباط الأمن بخصوص التغييرات التي كان الرئيس بوضياف ينوي ادخالها لاخراج البلاد من أزمتها. وبات قيام توفيق بدور مزدوج في لعبة واحدة أمراً ضروريا. ويذكر أن منصبه حينئذ, كان غنيمة تكالب عليها حساد آخرون كانوا خطيرين هذا وزادته معرفته لحقائق وتصرفات بوضياف مزايا عن غيره. لما حان وقت محاكمة الجنرال
مــصطفى بلوصيف مجددا قام الجنرال توفيق بنشر تفاصيل قضية حاج بتو (حيث
كان ضباط الأمن على علم بصفقاته غير القانونية مع بلدان الصحراء منذ
مدة طويلة) في الصحافة الوطنية بهدف صرف الأنظار عن المحاكمة. لكن في
الحقيقة, لم يكن الحاج بتو سوى واحد من مجموعة كبيرة وصلت الى غاية الجنرال
العربي بلخير. بدأت القصة بمشروع اقامة
تغطية كل التراب الجزائري عن طريق اجهزة الرادار, تقدم به العربي بلخير
للسلطة لحساب الحكومة الفرنسية. لكن رفض الجنرال مصطفى بلوصيف الذي يشغل
منصب الامين العام لوزارة الدفاع الوطني المشروع, وكذلك رَفَِِضَه العديد
من الضباط العسكريين الكبار بسبب تكلفته الخيالية اذ كانت قيمة المشروع
الاجمالية آنذاك تتجاوز الاربع مليارات فرنك فرنسي جديد كانت نتائج هذا
المشروع, لو تم انجازه ستكون وخيمة على اقتصاد البلاد كما كان سيضع نظام
الدفاع الجوي الجزائري برمته تحت سيطرة فرنسا وهذا هو السبب الذي جعل
بلوصيف يرفض تبني المشروع برغم الضغوط التي مارسها عليه العربي بلخير
والشاذلي للتوقيع عليه. (وشاء القدر أن يمضي لواء قوات الجيش محمد العماري
على مشروع مماثل عام 1995 مع الحكومة الفرنسية ــ بطبيعة الحال ــ وهذه
المرة كانت التكلفة اكبر بكثير). وفي الواقع, فإن الذين
اسقطوا بلوصيف هم عملاء استخبارات فرنسيون لان باريس استاءت لتلك المحاكمة
التي كانت ستؤول دون شك الى كشف العلاقات الجارية بين العربي بلخير والسلطات
الفرنسية عندما كان يقوم بمهام رئيس مكتب الرئيس الشاذلي بن جديد (كانت
اتصالات بلخير المباشرة مع فرنسا ومرشده في مجال السياسة الفرنسية في
الجزائر تتم عن طريق جاك اتالي, صديق حميم للرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا
ميتران). قدم العقيد مراد تقريرا مبدئيا تناول ملخصا للخسائر
الناجمة عن الفساد ونفوذ المافيا السياسية والمالية في الجزائر وتكملة
لملف المعلومات الذي كان قدمه قاصدي مرباح وكذلك خطة عمل مفصلة اضافة
الى الادلة التي جمعها مرباح خلال خدمة التي دامت ثماني عشرة سنة في
الحكومة. وبهذا حصل بوضياف على الادلة وكان يعلم علم اليقين انه لا نجاة
للجزائر من ازمتها الا اذا اشار باصابع الاتهام لمقترفي الجرائم في الجزائر
من اجل استعادة الثقة المفقودة بين الشرعية الجزائرية ودعاتها. لكن يجب
ان يتم ذلك قانونيا اي حسب الوسائل التي يخولها له القانون والدستور
فكان مصرا على عدم اللجوء الى الوسائل المنحطة. وكلف بوضياف العقيد مراد
بالتحقيق في تلك التهريبات المالية ومحاولة استرجاع جزء منها على الاقل
ولم يتردد الرئيس بوضياف في الاتصال مباشرة بالوزير الاول الفرنسي انذاك
بيار بيروغوفوا والطلب منه شخصيا دعمه لالقاء الضوء على نشاطات بعض المسؤولين
الجزائريين في فرنسا. وتعهد له بيروغوفوا الذي كان يتمتع في الاوساط
السياسية الفرنسية بسمعة جيدة بالنظر في الموضوع. لم تسفر سفرية "العقيد
مراد" ومساعديه عن نتائج ايجابية بطبيعة الحال لرفض العدالة الفرنسية
اصدار امر رفع السرية للكشف عن حسابات بنكية للمتهمين رفضا لا عدول عنه,
ولهذا عثر على جثة العقيد مراد بعد اسبوع من عودته من فرنسا اثر اغتياله
رميا بالرصاص في عنقه بمنطقة باش جراح. كان ذلك حسب التصريح الرسمي من
فعل الارهابيين بطبيعة الحال ومن الضباط الثلاثة الذين رافقوه الى باريس
(نقيب وملازمان اولان) لم يبق احد منهم على قيد الحياة: فقد اغتيلوا
على ايدي ارهابيين في الاسبوعين التاليين وقد غضب بوضياف لعلمه باغتيال
العقيد مراد غضبا شديدا. قبل اغتيال الرئيس بليال قليلة كانت امانة وزارة الدفاع الوطني تعيش حالة غليان, كما تكثفت الاتصالات فيما بين مختلف المسؤولين حيث لم يفترق نزار وتوفيق عن بعضهم البعض. وما زاد النار اشتعالا هو توقيع نزار لاوامر بمهمة للعقيد مراد للتوجه الى باريس. وكانت ضربات بوضياف في وجه المافيا الجزائرية تتزايد, وأن هناك رؤوسا قد اينعت وستقطف لا محالة ان لم يوضع حد للاجراءات التي اتخذها بوضياف. في اوائل شهر حزيران (يونيو)
عام 1992 في اجتماع ليلي للجنرالات ضم خالد نزار وتوفيق والعربي بلخير
في منطقة سيدي فرج (مركز تقطنه اسر لعسكريين) طرحت تصفية الرئيس باعتبارها
الحل الوحيد لمشكلة بوضياف خصوصا وان هذا الاخير راجع لتوه من المغرب
بعد مغادرة منصبه ولم يقبل بمواصلة مهامه كرئيس الا بعد سفر عدد من المسؤولين
(بما فيهم الجنرال محمد تواتي) لاقناعه بالعودة لخدمة بلاده. كان الخطر محدقا والوقت ضيقا وبات من الضروري بذل كل الجهود لايقاف بوضياف الذي ينوي مفاجأة المعسكر المنافس. وبمساعدة الجنرال العماري (عقيد آنذاك) ونائب مدير المخابرات السرية ورئيس الامن الداخلي وضع توفيق الخطوط العريضة لتصفية الرئيس. ولم يعتمد على السيناريو الاسلامي لاسباب السرية, وبالفعل لن يضمن سرية مطلقة للعملية تكليف عملاء اسلاميين ومن الارجح ان تكون نتائجهم اقل فعالية في وجه عناصر مصالح الامن الرئاسي وفرق التدخل الخاصة. أما الطريقة الوحيدة التي تكون نتائجها مضمونة هي التخطيط من الداخل: بانتقاء قناص يلبي اوامر مسؤوله الخاص (لسبب او لاخر) اذ يمكن الجنرالات القول بعد تنفيذ العملية ان الجاني مختل العقل, وبالتالي يُغلق ملف القضية من دون ان يشكل ذلك خطرا كبيرا ويضمن بالمقابل نجاحا تاما للعملية. وقد بارك كل من خالد نزار والعربي بلخير سيناريو العملية الذي عرضه عليهم اسماعيل العماري, وكانت فرقة الموت (خلية الشبح التي انشأها بلخير وتوفيق وسيرها اسماعيل تضم عناصر من مصلحة العمليات الخاصة تم انتقاؤهم بسرية تامة) تقوم بالمهمة السهلة التي تتمثل في تصفية كل الشهود والعناصر المزعجة ضمن شبكة بوضياف. لقد وجد اسماعيل لذة شيطانية في تصفية الخصوم وكل الاشخاص الذين لديهم علم بالقضية من دون ان يفلت منهم احد. لم تعرف تفاصيل عملية اغتيال بوضياف الا بعد تنفيذها, وذلك من خلال اعضاء مصالح الامن القلائل الذين اختلطوا ببومعرافي مبارك خلال الايام القليلة التي تلت المأساة. وكان بومعرافي جد قلق وخائف لكشف سره اللعين لأي كان. فوقوع اختيار اسماعيل العماري على الملازم الثاني مبارك بومعرافي لم يكن من باب الصدفة. فقد كان اسماعيل فد لاحظ في شخصيته برودة الدم إضافة إلى سريته من خلال عمليات سابقة. وكان العقيد اسماعيل الذي شغل منصب رئيس العمليات الخاصة آنذاك مؤهلا بحكم منصبه هذا لمعرفة من هو اهل لهذه المهمة. وفي مركز عنتر للعمليات الخاصة اطلع اسماعيل بومعرافي على التعليمات الاولى للعملية من دون ذكر اسم المستهدف, حاثا اياه على الالتحاق بجماعة الموت لتطهير حزب الخونة الذين ارادوا هدم وخراب البلاد ولا داعي لذكر الوعود المغرية بالترقية ضمن الجيش التي وجدت صدى لها عند بومعرافي. لانه ضروري جدا ان يكون لاي احد يرغب في الارتقاء ضمن الجيش من يدعمه ويسانده في ذلك. وهذا ما كان يصبو اليه بومعرافي. وبعد عدة اجتماعات جمعت بينهما استعد بومعرافي لليوم العظيم. وقد كشف لبعض رفقائه بعد العملية انه لما علم بالشخصية المستهدف تصفيتها لم يكن بوسعه مغادرة مكتب الرائد اسماعيل حيا في حالة ما رفض المضي في تنفيذ العملية. وطرأ في الاونة الاخيرة عشية الاغتيال مشكل كاد ان يتلف كل التدبير. فالرائد حمو قائد فرق التدخل الخاصة لم يعين الملازم الثاني بومعرافي لارساله الى عنابة لانه كان يحمله مسؤولية قتل صديقه والقائد الاسبق لفرق التدخل الخاصة الرائد عبد الرحمن خلال عملية مهاجمة ارهابيين بمنطقة تيليملي وسط الجزائر العاصمة حيث لقي الرائد عبد الرحمن والملازم الثاني طارق من فرق التدخل الخاصة مصرعهما في عين المكان اثر محاولتهم اقتحام مبنى سكني, وكان من المفروض ان يقوم بتغطية حمايتهما بومعرافي لكنه اخفق في ذلك, ونزلت على الضابطين رشقة من ضربات الكلاشنكوف لم تفدهم حتى الصدريات الوقائية المضادة للرصاص التي كانا يرتديانها. وعندما علم العقيد اسماعيل بالعناصر التي قرر حمو ارسالها الى عنابة اتصل به وامره باصدار امر بمهمة فردية لبومعرافي للانضمام الى بعثة المكلفين بامن الرئيس هناك فابلغه حمو بتحفظاته فيما يخص كفاءة هذا العنصر, لكنه رضخ في نهاية المطاف امام اصرار مسؤوله. وتوجهت فرق التدخل الخاصة
التي يتمثل واجبها في مساعدة مصالح الامن الرئاسي الى عنابة برا عشية
زيارة الرئيس للتأكد من اجراءات الامن هناك. ويوم وصول الرئيس الى عنابة
تم دمج عناصر فرق التدخل الخاصة بعناصر مصالح الامن الرئاسي, يعني انه
لم تكن اي تعقيدات بخصوص المساحات التي يجب على كل من العناصر المصلحتين
امنها. من الناحية المهنية كان السبب في ذلك جد بسيط: عناصر كلتا المصلحتين
مدربون تدريبا جيدا خاصة منهم عناصر فرق التدخل الخاصة, فكانوا يعرفون
بعضهم البعض جيدا وينتقلون من مصلحة الى اخرى, حسب اوامر مسؤوليهم. وبهذا
تكون خلاصة الدمج عدم شك اي من عناصر المصلحة في نزاهة اي عنصر من المصلحة
الاخرى في فرق الحماية. كانت الامور تجري وفقا لما خطط لها, وكان الرئيس يلقي خطابا مهما يهدف الى تعبئة الجماهير في الشرق الجزائري وترقية حركته التي تبنت شعار (الجزائر قبل كل شيء). وكان ذلك المشهد منقولا على الهواء مباشرة بطبيعة الحال, الى جميع انحاء الوطن. ووراء الستار كانت عناصر حماية الرئيس وعناصر فرق التدخل الخاصة يتحدثون بصوت منخفض في الوقت الذي كان فيه قائد مصالح الامن الرئاسي الرائد هجرس يتحدث متجرعا سجارته مع الرائد حمو والنقيب زايدي, (نائب مدير فرق التدخل الخاصة). والنقيب صادق مسؤول تكوين فرق التدخل الخاصة والملازم تركي رئيس بعثة فرق التدخل الخاصة. وامام المدخل الخلفي كان يوجد الملازم ياسين المعاون الاول لبعثة فرق التدخل الخاصة. وفي الفناء الخلفي كان متواجدا الملازم الثاني مبارك بومعرافي مكلف الامن.
في لحظة كان فيها اهتمام الجمهور منصبا على خطاب القائد الثوري محمد بوضياف سمع صوت انفجار بسيط اول في القاعة سبقه صوت دحرجة, حيث رمى بومعرافي قنبلة يدوية مفتوحة تدحرجت من تحت الستار, ثم برز من وراء الستار في الوقت نفسه ليطلق رشقة طلقات لالهاء عناصر مصالح الحماية, فظن هؤلاء انه هجوم من الخارج لما شاهدوا بومعرافي يضرب بالنار, غير ان هذا الاخير نصب رشاشة (من نوع باريتا 9 مليمتر ومن طراز بارابيلوم اي سلاح جد خطير) في اتجاه رأس بوضياف مرسلا رشقة طلقات اخرى طويلة. وفجأة ساد جو من الفزع والرعب وبدأ عناصر الامن الرئاسي يطلقون النار صوب الستار مما اسفر عن جرحى في عداد فرقة الحماية نفسها. والصورة الوحيدة التي بقيت في اذهان الجميع هي مشاهدة بومعرافي وهو يفر من الباب الخلفي حيث كان الملازم ياسين موجودا دون ان يعلم ما في الامر. هكذا شاهد الشعب الجزائري احداث مأساة اغتيال رئيسهم
مباشرة على الهواء. وقد كان مؤلما للغاية ان ذلك يحدث في الجزائر. أما
بومعرافي فببلوغه الفناء الخلفي تسلق جدارا يبلغ طوله حوالى مترين بسرعة
فائقة, ولم يشاهد هذا اللقطة سوى بضعة من رجال الشرطة والمارة كانوا
على مقربة من مكان الحادث.
وصلت الشرطة بسرعة الى
عين المكان فيما ابلغ مسؤول امن الولاية (عنابة) الضباط المسؤولين عن
فرق التدخل الخاصة وكذلك مصالح الامن الرئاسي باعتقال بومعرافي الذي
سلم نفسه دون مقاومة. وعمَّ آنذاك انهيار معنويات مسؤولي
فرق الحماية الرئاسية (فرق التدخل الخاصة ومصالح الامن الرئاسي) وغمرهم
شعور مقلق, لكن باعلان وفاة الرئيس, اصيب الكثيرون بصدمة عنيفة. فلم
يستطيعوا فهم كيف او لماذا حدث هذا.
أنشأ المجلس الاعلى للدولة
لجنة تحقيق وطنية يوم 1992/07/04 ضمت شخصيات انتقاها الجنرالات المعنيون.
وتشكلت هذه اللجنة من بلحوسين مبروك واحمد بوشعيب ومحمد فرحات ويوسف
فتح الله وكمال رزاق بارة وعلال الثعالبي. لم يكن لهذه اللجنة اي
سلطة لكن بحكم الشفافية >الخيالية< والنزاهة في التحقيق, انتهى عملها
بعد عدة اجتماعات مع مختلف المشاركين في اغتيال الرئيس بوضياف, بتقديم
تقرير للمجلس الاعلى للدولة, ولم يكن لهذا التقرير اي اهمية بناء على
انه لم يشكل تحقيقا قضائيا ولا رأي خبراء (بحكم عدم اهلية هؤلاء الاعضاء)
حول اغتيال الرئيس. نشبت داخل اللجنة اختلافات
عميقة وكثيرة بخصوص تحديد الجناة الحقيقيين. فقد رضخ اعضاء اللجنة كلهم
لضغوط ومضايقات الجنرالات, ما عدا يوسف فتح الله الذي رفض التوقيع على
التقرير النهائي الى اللحظة الاخيرة, لانه كان يريد ذكر مسؤولية قادة
اجهزة الامن وأقل شيء مطالبتهم بالاستقالة من مناصبهم كجزاء على المأساة. طرح بعد هذه القضية مشكل قضائي, اذ اعلن قاضي محكمة عنابة عدم كفاءة القضاء المدني للتحقيق في هذا الملف الذي كان النظر فيه من مهام القضاء العسكري. لكن المدير المركزي للعدالة العسكرية آنذاك, محمد العالم, بعد أن تسلم اوامر من عند الجنرال خالد نزار صرح في الصحافة ان القضية بطبيعتها مدنية وليست عسكرية. وبعد حوالي شهر من اغتيال الرئيس, قررت غرفة الاتهام بمحكمة عنابة بأن (محكمة عنابة) تتمتع بالصلاحية الاقليمية للنظر في القضية, حسب المادة 40 من قانون العقوبات. لقد ادرك الجنرالات الذين خططوا لعملية الاغتيال, ضرورة تكفل العدالة المدنية بهذه القضية مهما كلف الامر, لتكون قد لبت مبدأ الشفافية ازاء الشعب الذي شعر ان في الامر مؤامرة من جهتها, وازاء المحاكم الدولية من جهة اخرى. وبدأت آنذاك اصوات تتعالى في الشارع الجزائري متهمة الجنرال العربي بلخير بصفته الجاني الاول, مما دفع هذا الاخير الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية آنذاك, الاعلان في الصحافة الوطنية انه: لا يمكن الصاق التهم بوزارة الداخلية ولا بوزير ما بأنه وراء الاحداث المأساوية التي جرت بعنابة والتي راح ضحيتها الرئيس<. وبذلك انطلق سباق حقيقي مع الزمن في وجه الجزائريين الذين نددوا بمؤامرة المافيا السياسية والمالية ضد رموز الثورة وضد آمال شعب في طريق الضياع بكل بساطة. وامر وكيل الجمهورية لمنطقة عنابة محمد تيغرامت, المكلف رسميا بالتحقيق في هذه القضية, مواصلة التحقيق من قبل ضباط من رجال الامن القضائي التابعين للدرك الوطني وقرر اعادة اجراء الوقائع في الاسبوع الاول من شهر أوت (اغسطس) 1992, حيث توجهت فرقتا الامن الرئاسي والتدخل الخاصة صبيحة يوم السبت من الاسبوع الاول من شهر أوت (اغسطس), فيما نقل بومعرافي قبل ذلك بايام الى عين المكان جوا, وتمت اعادة الوقائع بحضور ضباط من الدرك الوطني, الى جانب شخصيات اخرى من بينهم قاضي المحكمة. وفوجىء الجميع, عندما امر القاضي - في نهاية الوقائع التي دامت اعادتها اكثر من خمس ساعات-بالقبض على عناصر الفرقتين. كانت المفاجأة كبيرة جدا ورفض عناصر الفرقتين تسليم اسلحتهم لرجال الدرك, إذ وجه عضو من فرقة التدخل الخاصة سلاحه نحو رجال الدرك لما حاولوا نزع السلاح من الرائد حمو, رئيس فرق التدخل الخاصة, الذي اشتد سخطه بعد سماع حكم القاضي. طالب الرائد هجرس بعدها
مباشرة بالاتصال بادارة مديرية المخابرات السرية, حيث نزل عليه الجنرال
توفيق بالشتائم وامره بالرضوخ للقانون. لقد كانت تلك اللهجة جديدة لم
يعهدها رائد الامن الرئاسي من قبل. وبأمر ملح من طرف الرائدين هجرس وحمو,
سلم الضباط وضباط الصف المرافقون للرائدين اسلحتهم لرجال الدرك الذين
نقلوهم مغلولي الايدي الى مركز الدرك الوطني, حيث قضوا اكثر من اسبوع
وتم الزج بالضباط كلهم في الزنزانة ذاتها. واندلع شجار بين عناصر مديرية
المخابرات السرية ورجال الدرك الذين اخذوا بثأرهم من عناصر المخابرات,
خاصة بعدما حازوا على دعم الجنرال غزيل رئيس الدرك الوطني بعدما ابعد
عن القمة التي كانت تتخذ القرارات. عندما كان الجنرال توفيق
يقابل اسر الضباط المعتقلين لمعرفة اخبارهم, كانت إجابته غامضة عن الاسئلة
المطروحة عليه, فعلى سبيل المثال, كان يقول لهم: هذا (الاعتقال) يأتي
مع طبيعة الشغل, على كل حال سيستمرون في تقاضي مرتباتهم كالعادة. اما
التصريح العجيب, في هذا الاطار, فجاء على لسان العقيد اسماعيل الذي قال
ساخرا للضباط الذين كانوا قلقين على مصير زملائهم: عليكم بالخيار, اما
هم او مسؤوليكم. وطال أمد النظر في القضية في عنابة عمدا, فيما قرر الجنرالات
تحويل الملف الى الجزائر العاصمة بهدف تمييعه. وفي الجزائر العاصمة, كلف النائب العام
لمحكمة الجزائر العاصمة عبد المالك السايح بالقضية. وكان هذا الاخير
احد عناصر المخابرات السابقين تحت التصرف التام لاسماعيل العماري الذي
جنده منذ سنين حيث كان يدرس بمعهد القضاة ثم قاضي محكمة امن الدولة بالمدية.
كما عين محمد سعادة, وهو قاض من الدرجة الثانية, لكنه معروف بانصافه,
لمساعدة السايح في سد فجوة الكفاءة التي تعوز السايح. لقد أنقذ السايح
عبد المالك وكمال رزاق بارة حياة ضباطهم الذين طبخوا العملية. وبالتالي
نالوا المكافاة. ذهب خمسة ضباط (اثنان منهم
من الرتب العالية) وثمانية عشر ضابط صف, بما فيهم من قضى ما يزيد عن
عشرين سنة خدمة في الجيش, ضحية متطلبات سيناريو الشفافية اعده المذنبون
الحقيقيون. فلجأت اسر المتهمين لتوكيل محامين للدفاع عنهم بعد سكوت المسؤولين
الذين لم يعودوا يستقبلونهم على الاطلاق, وكذا جو الخيانة الذي شعروا
به. لقد جرى التحقيق في قضية بوضياف بطريقة سيئة جدا, وبذل العميل السايح عبد المالك -الذي نال مكافأة ولائه بتنصيبه قنصلا في تونس- كل جهوده لتبديد حقائق تمثلت في اشارات كانت ستصل إلى حد اتهام الجنرالات المجرمين. ولم يحظ اي من عناصر المخابرات بمثل هذه السلطة وتلك الصلاحيات ابدا, فزيادة عن الحراس الشخصين الذين خصصوا لحمايته من مركز العمليات الخاصة, ومسكن خاص بنادي الصنوبر (المركب السياحي الذي حول الى حي سكني للعسكريين) كان السايح احد المدنيين القلائل الذين حازوا على سيارة مدرعة كلفت المشاركين في الجريمة اموالا باهظة. وعندما تقدم احد اقارب الضباط المتورطين بشكوى موضحا فيها تجاوزات السياح, الى صديقه وزير العدل آنذاك, الماحي الباهي, قدم له هذا الاخير ضمانات شخصية لتحويل الملف الى قاض آخر. فوفى الماحي الباهي بوعده, حيث استدعى السايح الى مكتبه, ولما اخبره وزير العدل بنيته في أخذ الملف منه وانه من المفروض ان يكلف بالقضية اكثر من قاض واحد, نزل السايح على الماحي بالشتم ولم يضيع وقته معه, بل اتجه مباشرة الى ثكنة غرمول حيث تتخذ مديرية مراقبة التجسس مقرا لها وكذلك مكتب العقيد اسماعيل العماري. وضمنت مكالمة واحدة من قبل اسماعيل حل المشكلة. وفي نفس اليوم, اعلن عن استقالة وزير العدل, الذي فوجئ بهذا الاعلان في وسائل الاعلام. وكان لجنة التحقيق قد وجهت لبومعرافي سؤالا ولم يجد له جوابا: لماذا لم تمكث في مكان الجريمة بعد فعلتك؟ ولم يكن بومعرافي هو الذي وجد ردا لهذا السؤال, بل زميل له من فرق التدخل الخاصة (الرقيب الاول كمال عيدون) الذي كان من الاوائل الملتحقين بفرق التدخل الخاصة, وشارك في بعثة حماية الرئيس الى عنابة. فقد فرّ عيدون من ثكنة فرق التدخل الخاصة في نهاية سنة 1993 لاسباب مبررة مفادها ان اسماعيل العماري كان يريد التخلص منه كما فعل قبل بضعة اشهر, اذ تخلص من ضابط صف لسبب بسيط هو ان كمال عيدون لم يقم بالمهمة التي كلفه بها العماري شخصيا قبل اسبوع من حدوث المأساة. فقد قال له: >تبعا للشكوك التي تخيم على ولاء بومعرافي, افوض لك الصلاحية المطلقة لتصفية بومعرافي لادنى خطأ قد يرتكبه. لم يستدرك كمال عيدون اسباب
شعوره بالقلق بخصوص اوامر اسماعيل الا بعد اغتيال بوضياف. لكن الاخطر
من ذلك, انه لم يلب اوامر اسماعيل. ومن اجل ضمان تنفيذ تصفية بومعرافي,
امر اسماعيل ضابط صف آخر بقتل بومعرافي, الا ان هذا العنصر, (اصله من
الجزائر العاصمة) كشف سره لاخيه بعد ايام قليلة من المأساة قائلا له:
الان عرفت لماذا طلب مني ذلك الذئب العجوز (تلك هي الصفة التي ينعت بها
اسماعيل ضمن مصلحة الامن) تصفية بومعرافي في عنابة. ولهذا فر كمال عيدون بعدما اطلع اقرباءه على التعليمات التي اعطيت له, لكنه رفض قتل زميل له. ولم يدم فراره طويلا لان اسماعيل عبأ كل القوى الخاصة للبحث عن هذا الاختصاصي في المتفجرات الذي تمرد على الجيش. واغتالته عناصر فرق التدخل الخاصة التابعة للامن الوطني, فيما اعيد مسدسه مملوءا لمصلحة فرق التدخل الخاصة. وكان بومعرافي على حق في تحرزه من اسماعيل. وبناء على ذلك, فضل تسليم نفسه لشرطة عنابة عوض زملائه. كانت حصيلة قضية بوضياف البشرية كبيرة جدا. فقد قتل حوالي عشرين شخصا بأوامر صدرت اما من اسماعيل او توفيق حتى لا ينكشف السر الكبير, من دون نسيان اغتيال قاصدي مرباح الذي قرر نشر اسباب اغتيال الرئيس في الصحف. وحتى زروال, الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع حينئذ, لم ينجح في تهدئة قاصدي مرباح واقناعه بارجاع ملفات خطيرة كانت بحوزته قبل اسبوعين من اغتياله. وكان ضابط مكتب الامن بالسفارة الجزائرية لدى سويسرا الرائد سمير, هو الذي استرجع الملفات المعنية التي سلمها احد اقارب المرحوم مرباح الى مديرية المخابرات السرية. ويجدر بالذكر هنا ايضا
المذبحة التي جرت بسجن سركاجي, والتي راح ضحيتها حوالي مائتي شخص في
آخر محاولة للقضاء على آخر الادلة (بومعرافي) على التورط الواضح لنزار
وبلخير وتوفيق واسماعيل في جريمة قتل أحد رموز الثورة الجزائرية.
نتقدم بعزائنا لأسر كل ضحايا هذه المأساة التي تبقى أحلك مأساة عرفها تاريخ مصالح الامن الجزائري, في حين ما يزال مقترفو جريمة اغتيال بوضياف وهم: خالد نزار والعربي بلخير ومحمد مدين (توفيق) واسماعيل العماري ومحمد العماري مستمرين في إبادة الشعب الجزائري.
|